Pages

الأحد، 5 مايو 2013

شعره قبل النفى

شعره في هذه الفترة


ودار شعر شوقي في هذه الفترة التي سبقت نفيه حول المديح ؛ حيث غمر الخديوي
عباس حلمي بمدائحه والدفاع عنه ، وهجاء أعدائه ، ولم يترك مناسبة إلا
قدَّم فيها مدحه وتهنئته له ، منذ أن جلس على عرش مصر حتى خُلع من الحكم ،
ويمتلئ الديوان بقصائد كثيرة من هذا الغرض .


ووقف شوقي مع الخديوي عباس حلمي في صراعه مع الإنجليز ومع من يوالونهم ،
لا نقمة على المحتلين فحسب ، بل رعاية ودفاعًا عن ولي نعمته كذلك ، فهاجم
رياض باشا رئيس النُظّار حين ألقى خطابًا أثنى فيه على الإنجليز وأشاد
بفضلهم على مصر ، وقد هجاه شوقي بقصيدة عنيفة جاء فيها :

غمرت القوم إطراءً وحمدًا         وهم غمروك بالنعم الجسام
خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا        أضيف إلى مصائبنا العظام
لهجت بالاحتلال وما أتاه             وجرحك منه لو أحسست دام

وبلغ من تشيعه للقصر وارتباطه بالخديوي أنه ذمَّ أحمد عرابي وهجاه بقصيدة
موجعة ، ولم يرث صديقه مصطفى كامل إلا بعد فترة ، وكانت قد انقطعت علاقته
بالخديوي بعد أن رفع الأخير يده عن مساندة الحركة الوطنية بعد سياسة
الوفاق بين الإنجليز والقصر الملكي ؛ ولذلك تأخر رثاء شوقي بعد أن استوثق
من عدم إغضاب الخديوي ، وجاء رثاؤه لمصطفى كامل شديد اللوعة صادق الأحزان
، قوي الرنين ، بديع السبك والنظم، وإن خلت قصيدته من الحديث عن زعامة
مصطفى كامل وجهاده ضد المستعمر ، ومطلع القصيدة :

المشرقان عليك ينتحبان                  قاصيهما في مأتم والدان

يا خادم الإسلام أجر مجاهد                في الله من خلد ومن رضوان

لمّا نُعيت إلى الحجاز مشى الأسى             في الزائرين وروّع الحرمان


وارتبط شوقي بدولة الخلافة العثمانية ارتباطًا وثيقًا ، وكانت مصر تابعة
لها، فأكثر من مدح سلطانها عبد الحميد الثاني ؛ داعيًا المسلمين إلى
الالتفات حولها ؛ لأنها الرابطة التي تربطهم وتشد من أزرهم ، فيقول :

أما الخلافة فهي حائط بيتكم         حتى يبين الحشر عن أهواله

لا تسمعوا للمرجفين وجهلهم          فمصيبة الإسلام من جهالة


ولما انتصرت الدولة العثمانية في حربها مع اليونان سنة (1315هـ = 1987م)
كتب مطولة عظيمة بعنوان " صدى الحرب " ، أشاد فيها بانتصارات السلطان
العثماني ، واستهلها بقوله :

بسيفك يعلو والحق أغلب          وينصر دين الله أيان تضرب


وهي مطولة تشبه الملاحم ، وقد قسمها إلى أجزاء كأنها الأناشيد في ملحمة ،
فجزء تحت عنوان " أبوة أمير المؤمنين " ، وآخر عن " الجلوس الأسعد " ،
وثالث بعنوان " حلم عظيم وبطش أعظم " . ويبكي سقوط عبد الحميد الثاني في
انقلاب قام به جماعة الاتحاد والترقي ، فينظم رائعة من روائعه العثمانية
التي بعنوان " الانقلاب العثماني وسقوط السلطان عبد الحميد " ، وقد

استهلها بقوله :

سل يلدزا ذات القصور        هل جاءها نبأ البدور

لو تستطيع إجابة               لبكتك بالدمع الغزير


ولم تكن صلة شوقي بالترك صلة رحم ولا ممالأة لأميره فحسب ، وإنما كانت صلة
في الله ، فقد كان السلطان العثماني خليفة المسلمين ، ووجوده يكفل وحدة
البلاد الإسلامية ويلم شتاتها ، ولم يكن هذا إيمان شوقي وحده ، بل كان
إيمان كثير من الزعماء المصريين .

وفي هذه الفترة نظم إسلامياته الرائعة ، وتعد قصائده في مدح الرسول - r -
من أبدع شعره قوة في النظم ، وصدقًا في العاطفة، وجمالاً في التصوير ،
وتجديدًا في الموضوع ، ومن أشهر قصائده " نهج البردة " التي عارض فيها
البوصيري في بردته ، وحسبك أن يعجب بها شيخ الجامع الأزهر آنذاك محدث
العصر الشيخ " سليم البشري " فينهض لشرحها وبيانها . يقول في مطلع القصيدة
:

ريم على القاع بين البان والعلم         أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

ومن أبياتها في الرد على مزاعم المستشرقين الذين يدعون أن الإسلام انتشر بحد السيف :
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا        لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة         فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
ويلحق بنهج البردة قصائد أخرى ، مثل : الهمزية النبوية ، وهي معارضة أيضًا للبوصيري ، وقصيدة ذكرى المولد التي مطلعها :
سلوا قلبي غداة سلا وتابا               لعل على الجمال له عتابًا


كما اتجه شوقي إلى الحكاية على لسان الحيوان ، وبدأ في نظم هذا الجنسة الأدبي منذ أن كان طالبًا في فرنسا ؛ ليتخذ منه وسيلة فنية يبث من خلالها نوازعه الأخلاقية والوطنية والاجتماعية ، ويوقظ الإحساس بين مواطنيه بمآسي الاستعمار ومكائده .

وقد صاغ شوقي هذه الحكايات بأسلوب سهل جذاب ، وبلغ عدد تلك الحكايات 56
حكاية ، نُشرت أول واحدة منها في جريدة " الأهرام " سنة (1310هـ = 1892م ) ، وكانت بعنوان " الهندي والدجاج " ، وفيها يرمز بالهندي لقوات الاحتلال وبالدجاج لمصر .

النفي إلى أسبانيا


وفي الفترة التي قضاها شوقي في أسبانيا تعلم لغتها ، وأنفق وقته في قراءة
كتب التاريخ ، خاصة تاريخ الأندلس ، وعكف على قراءة عيون الأدب العربي
قراءة متأنية ، وزار آثار المسلمين وحضارتهم في اشبيلية وقرطبة وغرناطة .

وأثمرت هذه القراءات أن نظم شوقي أرجوزته " دول العرب وعظماء الإسلام " ،
وهي تضم 1400 بيت موزعة على (24) قصيدة ، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد
النبوة والخلافة الراشدة ، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي
، وقد نُشرت بعد وفاته .
وفي المنفى اشتد به الحنين إلى الوطن وطال به الاشتياق وملك عليه جوارحه
وأنفاسه . ولم يجد من سلوى سوى شعره يبثه لواعج نفسه وخطرات قلبه ، وظفر
الشعر العربي بقصائد تعد من روائع الشعر صدقًا في العاطفة وجمالاً في
التصوير ، لعل أشهرها قصيدته التي بعنوان " الرحلة إلى الأندلس " ، وهي
معارضة لقصيدة البحتري التي يصف فيها إيوان كسرى ، ومطلعها :

صنت نفسي عما يدنس نفسي            وترفعت عن جدا كل جبس


وقد بلغت قصيدة شوقي (110) أبيات تحدّث فيها عن مصر ومعالمها ، وبثَّ
حنينه وشوقه إلى رؤيتها ، كما تناول الأندلس وآثارها الخالدة وزوال دول
المسلمين بها ، ومن أبيات القصيدة التي تعبر عن ذروة حنينه إلى مصر قوله :

أحرام على بلابله الدوح        حلال للطير من كل جنس

وطني لو شُغلت بالخلد عنه        نازعتني إليه في الخلد نفسي

شهد الله لم يغب عن جفوني         شخصه ساعة ولم يخل حسي



العودة إلى الوطن


عاد شوقي إلى الوطن في سنة (1339 هـ = 1920م ) ، و استقبله الشعب
استقبالاً رائعًا واحتشد الآلاف لتحيته ، وكان على رأس مستقبليه الشاعر
الكبير " حافظ إبراهيم " ، وجاءت عودته بعد أن قويت الحركة الوطنية واشتد
عودها بعد ثورة 1919 م ، وتخضبت أرض الوطن بدماء الشهداء ، فمال شوقي إلى
جانب الشعب ، وتغنَّى في شعره بعواطف قومه وعبّر عن آمالهم في التحرر
والاستقلال والنظام النيابي والتعليم ، ولم يترك مناسبة وطنية إلا سجّل
فيها مشاعر الوطن وما يجيش في صدور أبنائه من آمال .

لقد انقطعت علاقته بالقصر واسترد الطائر المغرد حريته ، وخرج من القفص
الذهبي ، وأصبح شاعر الشعب المصري وترجمانه الأمين ، فحين يرى زعماء
الأحزاب وصحفها يتناحرون فيما بينهم ، والمحتل الإنجليزي لا يزال جاثم على
صدر الوطن ، يصيح فيهم قائلاً :

إلام الخلف بينكم إلاما ؟          وهذي الضجة الكبرى علاما ؟

وفيم يكيد بعضكم لبعض             وتبدون العداوة والخصاما ؟

وأين الفوز ؟ لا مصر استقرت            على حال ولا السودان داما


ورأى في التاريخ الفرعوني وأمجاده ما يثير أبناء الشعب ويدفعهم إلى الأمام
والتحرر ، فنظم قصائد عن النيل والأهرام وأبي الهول . ولما اكتشفت مقبرة
توت عنخ آمون وقف العالم مندهشًا أمام آثارها المبهرة ، ورأى شوقي في ذلك
فرصة للتغني بأمجاد مصر ؛ حتى يُحرِّك في النفوس الأمل ويدفعها إلى الرقي
والطموح ، فنظم قصيدة رائعة مطلعها :

قفي يا أخت يوشع خبرينا         أحاديث القرون الغابرينا

وقصي من مصارعهم علينا             ومن دولاتهم ما تعلمينا



وامتد شعر شوقي بأجنحته ليعبر عن آمال العرب وقضاياهم ومعاركهم ضد
المستعمر، فنظم في " نكبة دمشق " وفي " نكبة بيروت " وفي ذكرى استقلال
سوريا وذكرى شهدائها ، ومن أبدع شعره قصيدته في " نكبة دمشق " التي سجّل
فيها أحداث الثورة التي اشتعلت في دمشق ضد الاحتلال الفرنسي، ومنها :

بني سوريّة اطرحوا الأماني            وألقوا عنكم الأحلام ألقوا

وقفتم بين موت أو حياة                فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا

وللأوطان في دم كل حرٍّ                     يد سلفت ودين مستحقُّ

وللحرية الحمراء باب                      بكل يد مضرجة يُدَقُّ


ولم تشغله قضايا وطنه عن متابعة أخبار دولة الخلافة العثمانية ، فقد كان
لها محبًا عن شعور صادق وإيمان جازم بأهميتها في حفظ رابطة العالم
الإسلامي ، وتقوية الأواصر بين شعوبه ، حتى إذا أعلن " مصطفى كمال أتاتورك
" إلغاء الخلافة سنة 1924 وقع الخبر عليه كالصاعقة ، ورثاها رثاءً صادقًا
في قصيدة مبكية مطلعها :

عادت أغاني العرس رجع نواح          ونعيت بين معالم الأفراح

كُفنت في ليل الزفاف بثوبه              ودفنت عند تبلج الإصباح

ضجت عليك مآذن ومنابر               وبكت عليك ممالك ونواح

الهند والهة ومصر حزينة                  تبكي عليك بمدمع سحَّاح


إمارة الشعر


أصبح شوقي بعد عودته شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها ، لا تفوته مناسبة
وطنية إلا شارك فيها بشعره ، وقابلته الأمة بكل تقدير وأنزلته منزلة عالية
، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر سنة ( 1346هـ = 1927م ) في حفل أقيم بدار
الأوبرا بمناسبة اختياره عضوًا في مجلس الشيوخ ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه
"الشوقيات " . وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه ، وأعلن
حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً :

بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي          بشعر أمير الدولتين ورجِّعي

أعيدي على الأسماع ما غردت به         براعة شوقي في ابتداء ومقطع

أمير القوافي قد أتيت مبايعًا              وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق