حياة احمد شوقي
كان الشعر العربي على موعد مع القدر، ينتظر من يأخذ بيده، ويبعث فيه روحًا جديدة تبث فيه الحركة والحياة، وتعيد له الدماء في الأوصال، فتتورد وجنتاه نضرة وجمالاً بعد أن ظل قرونًا عديدة واهن البدن، خامل الحركة، كليل البصر . وشاء الله أن يكون "البارودي" هو الذي يعيد الروح إلى الشعر العربي،ويلبسه أثوابًا قشيبة، زاهية اللون، بديعة الشكل والصورة، ويوصله بماضيه التليد، بفضل موهبته
ملامح شخصيته
يدخل شوقي في الرابعة من عمره كتاب " الشيخ صالح " ويبدو أن الدراسة فيهذا الكتاب كانت سيئة تعتمد علي التلقين والحفظ في التعليم ، والعصا ، أوما هو أقصي منها في التربية ، وهذا ما جعله يصرح بأن إدخاله الكتاب كان "من أهلي جناية علي وجداني " وينتهي شوقي من دراسة المرحلة الثانوية في سنمبكرة " سنة 1885 م "
قصائد رائعه
قُـم لِـلـمُـعَـلِّمِ وَفِّهِ iiالتَبجيلاكـادَ الـمُـعَـلِّمُ أَن يَكونَ رَسولاأَعَـلِـمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذييَـبـنـي وَيُـنشِئُ أَنفُساً iiوَعُقولاسُـبـحـانَـكَ الـلَهُمَّ خَيرَ iiمُعَلِّمٍعَـلَّـمـتَ بِـالقَلَمِ القُرونَ iiالأولىأَخـرَجـتَ هَذا العَقلَ مِن iiظُلُماتِهِوَهَـدَيـتَـهُ الـنـورَ المُبينَ iiسَبيلاوَطَـبَـعـتَـهُ بِـيَـدِ المُعَلِّمِ iiتارَةً
الأحد، 5 مايو 2013
شعره قبل النفى
شعره في هذه الفترة
عباس حلمي بمدائحه والدفاع عنه ، وهجاء أعدائه ، ولم يترك مناسبة إلا
قدَّم فيها مدحه وتهنئته له ، منذ أن جلس على عرش مصر حتى خُلع من الحكم ،
ويمتلئ الديوان بقصائد كثيرة من هذا الغرض .
ووقف شوقي مع الخديوي عباس حلمي في صراعه مع الإنجليز ومع من يوالونهم ،
لا نقمة على المحتلين فحسب ، بل رعاية ودفاعًا عن ولي نعمته كذلك ، فهاجم
رياض باشا رئيس النُظّار حين ألقى خطابًا أثنى فيه على الإنجليز وأشاد
بفضلهم على مصر ، وقد هجاه شوقي بقصيدة عنيفة جاء فيها :
غمرت القوم إطراءً وحمدًا وهم غمروك بالنعم الجسام
خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا أضيف إلى مصائبنا العظام
لهجت بالاحتلال وما أتاه وجرحك منه لو أحسست دام
وبلغ من تشيعه للقصر وارتباطه بالخديوي أنه ذمَّ أحمد عرابي وهجاه بقصيدة
موجعة ، ولم يرث صديقه مصطفى كامل إلا بعد فترة ، وكانت قد انقطعت علاقته
بالخديوي بعد أن رفع الأخير يده عن مساندة الحركة الوطنية بعد سياسة
الوفاق بين الإنجليز والقصر الملكي ؛ ولذلك تأخر رثاء شوقي بعد أن استوثق
من عدم إغضاب الخديوي ، وجاء رثاؤه لمصطفى كامل شديد اللوعة صادق الأحزان
، قوي الرنين ، بديع السبك والنظم، وإن خلت قصيدته من الحديث عن زعامة
مصطفى كامل وجهاده ضد المستعمر ، ومطلع القصيدة :
المشرقان عليك ينتحبان قاصيهما في مأتم والدان
يا خادم الإسلام أجر مجاهد في الله من خلد ومن رضوان
لمّا نُعيت إلى الحجاز مشى الأسى في الزائرين وروّع الحرمان
وارتبط شوقي بدولة الخلافة العثمانية ارتباطًا وثيقًا ، وكانت مصر تابعة
لها، فأكثر من مدح سلطانها عبد الحميد الثاني ؛ داعيًا المسلمين إلى
الالتفات حولها ؛ لأنها الرابطة التي تربطهم وتشد من أزرهم ، فيقول :
أما الخلافة فهي حائط بيتكم حتى يبين الحشر عن أهواله
لا تسمعوا للمرجفين وجهلهم فمصيبة الإسلام من جهالة
ولما انتصرت الدولة العثمانية في حربها مع اليونان سنة (1315هـ = 1987م)
كتب مطولة عظيمة بعنوان " صدى الحرب " ، أشاد فيها بانتصارات السلطان
العثماني ، واستهلها بقوله :
بسيفك يعلو والحق أغلب وينصر دين الله أيان تضرب
وهي مطولة تشبه الملاحم ، وقد قسمها إلى أجزاء كأنها الأناشيد في ملحمة ،
فجزء تحت عنوان " أبوة أمير المؤمنين " ، وآخر عن " الجلوس الأسعد " ،
وثالث بعنوان " حلم عظيم وبطش أعظم " . ويبكي سقوط عبد الحميد الثاني في
انقلاب قام به جماعة الاتحاد والترقي ، فينظم رائعة من روائعه العثمانية
التي بعنوان " الانقلاب العثماني وسقوط السلطان عبد الحميد " ، وقد
استهلها بقوله :
سل يلدزا ذات القصور هل جاءها نبأ البدور
لو تستطيع إجابة لبكتك بالدمع الغزير
ولم تكن صلة شوقي بالترك صلة رحم ولا ممالأة لأميره فحسب ، وإنما كانت صلة
في الله ، فقد كان السلطان العثماني خليفة المسلمين ، ووجوده يكفل وحدة
البلاد الإسلامية ويلم شتاتها ، ولم يكن هذا إيمان شوقي وحده ، بل كان
إيمان كثير من الزعماء المصريين .
وفي هذه الفترة نظم إسلامياته الرائعة ، وتعد قصائده في مدح الرسول - r -
من أبدع شعره قوة في النظم ، وصدقًا في العاطفة، وجمالاً في التصوير ،
وتجديدًا في الموضوع ، ومن أشهر قصائده " نهج البردة " التي عارض فيها
البوصيري في بردته ، وحسبك أن يعجب بها شيخ الجامع الأزهر آنذاك محدث
العصر الشيخ " سليم البشري " فينهض لشرحها وبيانها . يقول في مطلع القصيدة
:
ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
ومن أبياتها في الرد على مزاعم المستشرقين الذين يدعون أن الإسلام انتشر بحد السيف :
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلمويلحق بنهج البردة قصائد أخرى ، مثل : الهمزية النبوية ، وهي معارضة أيضًا للبوصيري ، وقصيدة ذكرى المولد التي مطلعها :
سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل على الجمال له عتابًا
كما اتجه شوقي إلى الحكاية على لسان الحيوان ، وبدأ في نظم هذا الجنسة الأدبي منذ أن كان طالبًا في فرنسا ؛ ليتخذ منه وسيلة فنية يبث من خلالها نوازعه الأخلاقية والوطنية والاجتماعية ، ويوقظ الإحساس بين مواطنيه بمآسي الاستعمار ومكائده .
وقد صاغ شوقي هذه الحكايات بأسلوب سهل جذاب ، وبلغ عدد تلك الحكايات 56
حكاية ، نُشرت أول واحدة منها في جريدة " الأهرام " سنة (1310هـ = 1892م ) ، وكانت بعنوان " الهندي والدجاج " ، وفيها يرمز بالهندي لقوات الاحتلال وبالدجاج لمصر .
النفي إلى أسبانيا
وفي الفترة التي قضاها شوقي في أسبانيا تعلم لغتها ، وأنفق وقته في قراءة
كتب التاريخ ، خاصة تاريخ الأندلس ، وعكف على قراءة عيون الأدب العربي
قراءة متأنية ، وزار آثار المسلمين وحضارتهم في اشبيلية وقرطبة وغرناطة .
وأثمرت هذه القراءات أن نظم شوقي أرجوزته " دول العرب وعظماء الإسلام " ،
وهي تضم 1400 بيت موزعة على (24) قصيدة ، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد
النبوة والخلافة الراشدة ، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي
، وقد نُشرت بعد وفاته .
وفي المنفى اشتد به الحنين إلى الوطن وطال به الاشتياق وملك عليه جوارحه
وأنفاسه . ولم يجد من سلوى سوى شعره يبثه لواعج نفسه وخطرات قلبه ، وظفر
الشعر العربي بقصائد تعد من روائع الشعر صدقًا في العاطفة وجمالاً في
التصوير ، لعل أشهرها قصيدته التي بعنوان " الرحلة إلى الأندلس " ، وهي
معارضة لقصيدة البحتري التي يصف فيها إيوان كسرى ، ومطلعها :
صنت نفسي عما يدنس نفسي وترفعت عن جدا كل جبس
وقد بلغت قصيدة شوقي (110) أبيات تحدّث فيها عن مصر ومعالمها ، وبثَّ
حنينه وشوقه إلى رؤيتها ، كما تناول الأندلس وآثارها الخالدة وزوال دول
المسلمين بها ، ومن أبيات القصيدة التي تعبر عن ذروة حنينه إلى مصر قوله :
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس
وطني لو شُغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني شخصه ساعة ولم يخل حسي
العودة إلى الوطن
عاد شوقي إلى الوطن في سنة (1339 هـ = 1920م ) ، و استقبله الشعب
استقبالاً رائعًا واحتشد الآلاف لتحيته ، وكان على رأس مستقبليه الشاعر
الكبير " حافظ إبراهيم " ، وجاءت عودته بعد أن قويت الحركة الوطنية واشتد
عودها بعد ثورة 1919 م ، وتخضبت أرض الوطن بدماء الشهداء ، فمال شوقي إلى
جانب الشعب ، وتغنَّى في شعره بعواطف قومه وعبّر عن آمالهم في التحرر
والاستقلال والنظام النيابي والتعليم ، ولم يترك مناسبة وطنية إلا سجّل
فيها مشاعر الوطن وما يجيش في صدور أبنائه من آمال .
لقد انقطعت علاقته بالقصر واسترد الطائر المغرد حريته ، وخرج من القفص
الذهبي ، وأصبح شاعر الشعب المصري وترجمانه الأمين ، فحين يرى زعماء
الأحزاب وصحفها يتناحرون فيما بينهم ، والمحتل الإنجليزي لا يزال جاثم على
صدر الوطن ، يصيح فيهم قائلاً :
إلام الخلف بينكم إلاما ؟ وهذي الضجة الكبرى علاما ؟
وفيم يكيد بعضكم لبعض وتبدون العداوة والخصاما ؟
وأين الفوز ؟ لا مصر استقرت على حال ولا السودان داما
ورأى في التاريخ الفرعوني وأمجاده ما يثير أبناء الشعب ويدفعهم إلى الأمام
والتحرر ، فنظم قصائد عن النيل والأهرام وأبي الهول . ولما اكتشفت مقبرة
توت عنخ آمون وقف العالم مندهشًا أمام آثارها المبهرة ، ورأى شوقي في ذلك
فرصة للتغني بأمجاد مصر ؛ حتى يُحرِّك في النفوس الأمل ويدفعها إلى الرقي
والطموح ، فنظم قصيدة رائعة مطلعها :
قفي يا أخت يوشع خبرينا أحاديث القرون الغابرينا
وقصي من مصارعهم علينا ومن دولاتهم ما تعلمينا
وامتد شعر شوقي بأجنحته ليعبر عن آمال العرب وقضاياهم ومعاركهم ضد
المستعمر، فنظم في " نكبة دمشق " وفي " نكبة بيروت " وفي ذكرى استقلال
سوريا وذكرى شهدائها ، ومن أبدع شعره قصيدته في " نكبة دمشق " التي سجّل
فيها أحداث الثورة التي اشتعلت في دمشق ضد الاحتلال الفرنسي، ومنها :
بني سوريّة اطرحوا الأماني وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
وقفتم بين موت أو حياة فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حرٍّ يد سلفت ودين مستحقُّ
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدَقُّ
ولم تشغله قضايا وطنه عن متابعة أخبار دولة الخلافة العثمانية ، فقد كان
لها محبًا عن شعور صادق وإيمان جازم بأهميتها في حفظ رابطة العالم
الإسلامي ، وتقوية الأواصر بين شعوبه ، حتى إذا أعلن " مصطفى كمال أتاتورك
" إلغاء الخلافة سنة 1924 وقع الخبر عليه كالصاعقة ، ورثاها رثاءً صادقًا
في قصيدة مبكية مطلعها :
عادت أغاني العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفراح
كُفنت في ليل الزفاف بثوبه ودفنت عند تبلج الإصباح
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحَّاح
إمارة الشعر
أصبح شوقي بعد عودته شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها ، لا تفوته مناسبة
وطنية إلا شارك فيها بشعره ، وقابلته الأمة بكل تقدير وأنزلته منزلة عالية
، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر سنة ( 1346هـ = 1927م ) في حفل أقيم بدار
الأوبرا بمناسبة اختياره عضوًا في مجلس الشيوخ ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه
"الشوقيات " . وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه ، وأعلن
حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً :
بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي بشعر أمير الدولتين ورجِّعي
أعيدي على الأسماع ما غردت به براعة شوقي في ابتداء ومقطع
أمير القوافي قد أتيت مبايعًا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
حياتة و نشاته الجزء الرابع
مكانة شوقي
منح الله شوقي موهبة شعرية فذة، وبديهة سيالة، لا يجد عناء في نظم القصيدة، فدائمًا كانت المعاني تنثال عليه انثيالاً وكأنها المطر الهطول، يغمغم بالشعر ماشيًا أو جالسًا بين أصحابه، حاضرًا بينهم بشخصه غائبًا عنهم بفكره؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية؛ إذ بلغ نتاجه الشعري ما يتجاوز ثلاثة وعشرين ألف بيت وخمسمائة بيت، ولعل هذا الرقم لم يبلغه شاعر عربي قديم أو حديث.
وإلى جانب ثقافته العربية كان متقنًا للفرنسية التي مكنته من الاطلاع على آدابها والنهل من فنونها والتأثر بشعرائها، وهذا ما ظهر في بعض نتاجه وما استحدثه في العربية من كتابة المسرحية الشعرية لأول مرة.
وقد جمع شوقي شعره الغنائي في ديوان سماه "الشوقيات"، ثم قام الدكتور محمد صبري السربوني بجمع الأشعار التي لم يضمها ديوانه، وصنع منها ديوانًا جديدًا في مجلدين أطلق عليه "الشوقيات المجهولة".
وفــاته
ظل شوقي محل تقدير الناس وموضع إعجابهم ولسان حالهم، حتى إن الموت فاجأه بعد فراغه من نظم قصيدة طويلة يحيي بها مشروع القرش الذي نهض به شباب مصر، وفاضت روحه الكريمة في (13 من جمادى الآخرة = 14 من أكتوبر 1932م.
الخاتمة :
في هذا البحث تطرقت لبعض جوانب حياة احمد شوقي ومكانته ونماذج من أشعاره ودراسة أدبية لمسرحية مجنون ليلى وغير ذلك. وكان شوقي ذا حس لغوي مرهف وفطرة موسيقية بارعة في اختيار الألفاظ التي تتألف مع بعضها لتحدث النغم الذي يثير الطرب ويجذب الأسماع، فجاء شعره لحنًا صافيًا ونغمًا رائعًا لم تعرفه العربية إلا لقلة قليلة من فحول الشعراء.
لمتابعه الجزء الاول
لمتابعه الجزء الثاني
لمتابعه الجزء الثالث
حياتة و نشاته الجزء الثالث
دراسة أدبيه لمسرحيته" مجنون ليلي ":
هذه هي المسرحية الثانية التي قدمها شوقي إلى الجمهور بعد عودته إلى الكتابة للمسرح في الفترة الأخيرة من حياته . وهي أولى مسرحياته التي اتخذت مادتها الأولية من التاريخ العربي. وقد أدارها حول قصة الشاعر قيس ابن الملوح وحبه لليلى، هذه القصة التي حفتها بعض الأساطير، ولكنها كانت وما تزال من أروع صور هذا الحب العذري الذي اشتهر في بوادي نجد والحجاز أيام لعصر الأموي.وقد اعتمد المؤلف على أهم الروايات التي تحكى قصة هذا الشاعر، والتي يضمها كتاب "الأغاني" والتي تقول إن قيسا كان يهوى ليلى منذ حداثتيهما وهما يرعيان غنم الأهل، وانه انشد في حبها شعرا كان السبب – فيما بعد – في أن رفض أبوها زواج قيس منها، وذلك على عادة العرب، في عدم تزويج الفتاة ممن يشبب بها. وكان هذا الحب المبرح المحروم سببا في ضعف قيس جسميا وعقليا، حتى هام في بوادي نجد مخبلا، لا ينبهه إلا سماع اسم ليلى، ولا يجذبه إلا الحديث عنها. ورغم سعى بعض المشفقين على قيس لدى أهل ليلى؛ قد خابت كل محاولة في التغلب على رفض زواج الحبيبين، ثم زوجت ليلى لرجل آخر كان قد تقدم إلى أهلها، ولكنها ما فتئت تعانى آلام الحب، حتى ضنيت ثم ماتت. كل هذا وقيس يهيم على وجهه في البادية ولا يجدي شيء في إرجاع رشده إليه. حتى إذا ما علم بموتها مات هو الآخر. بعد أن قال في صاحبته وفي حبه وفي عذابه من أجل هذا الحب، أشعارا تعد من أصدق وأرق وأحر ما قيل من شعر في هذه العاطفة النبيلة.
ولم يهمل المؤلف ما يفيد موضوعه من الأساطير التي نسجت حول هذه القصة، بل اختار منها ما يرى أنه يصلح للمسرحية في روعة مشاهدها ونمو أحداثها، والتعبير عن نفوس أبطالها. وهكذا مزج بين الأخبار وأساطير، مختارا من هذه وتلك ما يؤلف مسرحية تاريخية شعرية، موضوعها الحب العنيف العفيف واصطدامه بالتقاليد، وسقوط البطلين شهيدين لهذا الحب، وبيد تلك التقاليد.
وكان هدف المؤلف من هذه المسرحية هو الإشادة بالنبل العربي، والتغني بسمو العرب وتضحياتهم بحياتهم في سبيل نبيل العواطف، أو من أجل رعاية التقاليد، كما حدث لقيس، وكما جرى لليلى.
وقد قدم شوقي قصة المجنون في خمسة فصول. ففي الفصل الأول نشهد مجلس سمر أمام دار ليلى، حيث يتحدث بعض الفتيان والفتيات عن أخبار السياسة في الحضر والبادية، ثم يتطرق الحديث إلى قيس، ويروى بعضهم قصته مع الظبي الذي رآه يشبه ليلى، والذي تعرض له ذئب فصرعه وأكل بعضه، فرماه قيس بسهم فقتله وبقر بطنه وأخرج من جوفه ما أكل من الظبي ودفنه. ثم يرجو ابن ذريح ليلى أن تعطف على قيس، فتجيبه بأنها في حيرة من أمرها بين الحب لقيس والحفاظ على عرضها الذي مسه تشبيبه.. ثم نرى قيسا يناجي ليلى بعد أن ينفض المجتمعون للسمر، ويكون قد جاء متعللا بطلب قبس من النار، حتى إذا ما جاءت له بما طلب، دخل معها في نجوى غرامية يذهل معها عن نفسه حتى تحرق النار بعض ملابسه وتنفذ إلى لحمه. ثم يأتي المهدي والد ليلى ويعاتبه على ما كان منه، وينصرف قيس.
وفي الفصل الثاني تظهر بلهاء الجارية تحمل ذبيحة قرأ عليها العراف بعض التمائم لكي يأكل قيس قلبها ويشفى مما فيه، ولكن قيسا لا يأكل شيئا؛ لأن الذبيحة منزوعة القلب. ويظهر بعض الغلمان متغنين بشعر قيس، ومنهم من يناصره ومنهم من يعاديه، ويبدو قيس في الطريق مغمى عليه مخبلا، ويراه ابن عوف – أحد رجال الدولة – فيشفق عليه، وحين يسمع قيس اسم ليلى يصحو، ويتعهد له ابن عوف أن يأخذه إلى آل ليلى ليتوسط له لديهم
.
وفي الفصل الثالث نرى ركب الوسيط ابن عوف يبلغ حي آل ليلى، ويلتقي ابن عوف بوالد ليلى الذي يعاتبه على وساطته، ويريد منازل – غريم قيس – أن يثير القوم على العاشق ليقتلوه. ولكن زيادا – نصير قيس – يكشف "منازل" ويبين انه لا يحب ليلى ولا تحبه، فهو حاقد على الحبيبين مغرض في دعوته إلى الانتقام… وتحت إلحاح ابن عوف ومناشدته، يسأل ليلى أبوها في حضرة ابن عوف عن رأيها في الزواج من قيس، فترفض رعاية للتقاليد، وتقبل الزواج من "ورد" الذي علمت أنه تقدم لخطبتها، وينصرف ركب ابن عوف بعد فشل الوساطة.
وفي الفصل الرابع نرى قيسا في عالم الجن، الذي يصور عالمه العقلي المخبول. ويدله شيطانه على الطريق إلى حي ليلي الذي تزوجت فيه. ويرى قيس وردا زوجها الذي يمهد له سبيل اللقاء بليلى كرما منه وسماحة.. وفي هذا اللقاء المنفرد يعرض قيس على ليلى أن تهرب معه إنقاذا لجيبها، ولكنها ترفض رغم حبها له ورعاية للتقاليد، وهنا يثور قيس ويتركها وينصرف غاضبا. وتستشعر ليلى أنها آذت قيسا، ويتضافر هذا الشعور مع حبها المبرح حتى يقودها إلى منيتها. ويتخلل هذا الفصل منظر غنائي راقص وهو منظر عالم الجن.
وفي الفصل الخامس يبدو قبر ليلى طوائف المعزين الذين يتوافدون على أهلها لمواساتهم. ويكون من هؤلاء المعزين بعض المغنين والشعراء كالغرض وابن سعيد. وينشد الغرض نشيد وادي الموت، ثم ينصرف الجميع. وعلى أثر ذلك يظهر قيس وحده، فيعلم بوفاة ليلى من بشر، فيغمى عيه وهو وحيد منفرد، ويحتضر، ثم يظهر ابن ذريح يرثي ليلى، ويحضر موت صاحبها.
وقد حفلت المسرحية بالمواقف "الدرامية" والغنائية الجيدة، التي تآزرت – مع الشعر الرائع – على جعل هذه المسرحية أنجح مسرحيات شوقي جميعا. وقد ساعد على ذلك أن القصة قصة حب إنساني رفيع، وأن البطل شاعر شهير، وأن طرف القصة موضع عطف يجذب إليها المشاعر، ويحني عليهما القلوب. كذلك ساعد على نجاح هذه المسرحية، أن كون البطل شاعرا قد أباح للمؤلف أن يجري على لسانه قطعا شعرية رائعة في المناجيات والشاكيات الأوصاف والتأملات، دون أن يخل ذلك بالبناء الفني للمسرحية، أو يسبب إبطاء حركتها أو إقحام الغنائية عليها، كما حدث في مصرع كليوباترا مثلا. وذلك لأن مثل هذه الأشعار الغنائية في مجنون ليلى من شأنها أن تجري على لسان شاعر، وشاعر محب مدله هائم كمجنون ليلى.
وقد كان المؤلف موفقا حين جعل نصب عينيه – في كثير من الأحيان – شعر البطل نفسه، فكان يعتمد على معانية حينا، كما كان يقتبس بعض نصوصه حينا آخر ، مما جعله أكثر تعبيرا عن حقيقة البطل وواقعه التاريخي والنفسي.
بل أن بعض تلك الأشعار الكثيرة التي أجراها شوقي على لسان بطله، قد لعبت دورا مهما وأساسيا في مسار الأحداث، فهي التي حالت دون زواج الحبيبين، وسببت الأزمة، وهي – في الوقت نفسه – التي كسبت للبطل كثيرا من الأعوان والوسطاء، وأهوت إليه القلوب، شخصيات عديدة في المسرحية، وقلوب آلاف وفيرة من القراء والمشاهدين.
ثم لأن الموضوع عربي، كان إجراء الشعر على ألسنة الشخصيات أكثر ملائمة وأقرب إلى الطبيعة.
وحتى المشاهد الغنائية والإنشادية، كانت في هذه المسرحية أجود وأكثر التصاقا ببنائها وأعظم خدمة لجوها.
ولا ينسى من عوامل نجاح هذه المسرحية وروعة بعض مواقفها، ما كان من ازدياد خبرة المؤلف وإفادته من نقد النقاد لكتابته المسرحية السابقة على هذه المسرحية.
غير أنه يؤخذ على "مجنون ليلى" أن المؤلف قد أعتمد على بعض الحكايات غير المعقولة، والتي لا تخدم المسرحية ولا هدفها. مثل حكاية احتراق قيس بالنار وهو لاه عن نفسه أثناء حديث له مع ليلى، حتى مست النار لحمه.
ومثل قصة رفض قيس أن يطعم من شاة لأنها كانت منزوعة القلب.
ومثل حكايات كثرة إغمائه وإفاقته، التي تظهره متهافتا ضعيف الشخصية في بعض الأحايين .
كذلك يؤخذ على هذه المسرحية أن المؤلف قد جعل بعض الشخصيات تتصرف تصرفات مخالفة للعرف. فمثلا نرى (ورد) في المسرحية – وهو زوج ليلى – يبيح لقاء قيس واختلاءه بصاحبته في بيت الزوجية، وهذا غير مألوف ، مهما قصد به الإشادة بنبل العرب وسماحتهم. ووالد ليلى حين يتقدم إليه ابن عوف ملحا في إتمام زواجها من قيس، يترك الخيار لها لتبدى رأيها، فترفض إيثارا للتقاليد، وهذه من المبالغات المفرطة، مهما أريد الإشادة بمنح الأب العربي الحرية للبنت، ومهما قصد إلى الإشادة برعاية البنت للتقاليد. وليلى في مشهد سمر ليلي نراها تقدم ابن ذريح لصواحبها وتقدمهن له، تماما كما تفعل الفتيات الحضريات في العصر الحديث في بعض النوادي أو حفلات السمر.
وكل هذا مما يخرج المواقف عن طبيعتها المألوفة، ويصرفها عن توقعاتها المنتظرة.
ومأخذ أخير على "مجنون ليلى" وهو أن الصراع النفسي فيها ليس واضحا بالقدر الذي كان من الممكن أن يتحقق. ففي المسرحية مواقف تتيح فرصة تجلية هذا الصراع، وبيان كيف تتصادم المشاعر في داخل النفس الإنسانية. ومن أهم هذه المواقف موقف ليلى، وقد عرض عليها إبداء رأيها في الزواج من قيس. فان المؤلف قد جعل البطلة تعبر في يسر وإيجاز عن رفضها إيثار للتقاليد، وكل ما نحسه منها هو مجرد الندم على هذا التصرف .
بينما كان من الممكن في هذا المجال تصوير صراع الحب والتقاليد في أعماقها، واصطدام صوت القلب بصوت العقل في داخلها، وحرب العرف الجامد للتطوير المرن في وجدانها. ووسائل تجلية هذا الصراع كثيرة يعرفها المتمرسون بصناعة الكتابة المسرحية، فهناك النجوى الداخلية للذات، وهناك الإفضاء والمسار إلى من يؤتمن على السر، ثم هناك الحلم، وما إلى ذلك من الوسائل التعبيرية المسرحية الكثيرة.
وربما كان اهتمام شوقي بالوصف والعرض الخارجي، أكثر من اهتمامه بالتحليل والاستبطان الداخلي، راجعا لرغبته في أن يمزج بين التمثيل والغناء، وعدم رغبته في التمثيل وحده. ومن هنا لم يطالب نفسه بهذا التعمق التحليلي الذي يطالب به مؤلفو المسرحيات الخالصة أنفسهم. وربما كان من الإنصاف أن ينظر إلى مسرحيات شوقي الشعرية من هذه الزاوية. وفي هذا الإطار تعتبر "مجنون ليلى" من أروع مسرحيات شوقي ، ومن خير المسرحيات الشعرية في الأدب المصري الحديث. هذا بالإضافة إلى ما لها ولأخواتها من فضل الريادة في ميدان الأدب المسرحي الشعري.
وهذا مشهد في "مجنون ليلي" حيث يلتقي قيس وصاحبته في دار "ورد" بعد أن تزوجت – كارهة ومضحية – من هذا الأخير، وحيث أتاح "ورد" هذا اللقاء سماحة منه ورحمة بالمجنون:
ليلى: أحق حبيب القلب أنت بجانبي أحلم سرى أم نحن منتبهان
أبعد تراب المهد من أرض عامر بأرض ثقيف نحن مقتربان
قيس: حنانيك ليلى، ما لخل وخلة من الأرض إلا حيث يجتمعان
فكل بلاد قربت منك، منزلي وكل مكان أنت فيه، مكاني
ليلى: فمالي أرى خديك بالدمع بللا أمن فرح عيناك تبتدران
قيس: فداؤك ليلى الروح من شر حادث رماك بهذا السقم والذوبان
ليلى: تراني اذن مهزولة قيس؟ حبذا هزالي ومن كان الهزال كساني
قيس: هو الفكر ليلى، فيمن الفكر؟
ليلى: في الذي تجنى
قيس: كفاني ما لقيت كفاني
ليلى: أأدركت أن السهم يا قيس واحد وأنا كلينا للهوى هدفان
كلانا قيس مذبوحٌ قتيل الأب والأم
طعينان بسكين من العادات والوهم
لقد زوجت ممن لم يكن ذوقي ولا طعمي
ومن يكبر عن سني ومن يصغر عن علمي
غريب لا من الحي ولا من ولد العم
ولا ثروته تربي على مال أبي الجم
فنحن اليوم في بيت على ضدين منضم
هو السجن وقد لا ينطوي السجن على ظلم
هو القبر حوا ميتين جارين على الرغم
شتيتين وان لم يبعد العظم من العظم
فان القرب بالروح وليس القرب بالجسم
قيس" تعالي نعيش ياليل في ظل قفرة من البيد لم تنقل بها قدمان
تعالي إلى واد خلي وجدول ورنة عصفور وأيكة بان
تعالي إلى ذكرى الصبا وجنونه وأحلام عيش من ضد وأمان
فكم قبلة ياليل في ميعة الصبا وقبل الهوى ليست بذات معان
أخذنا وأعطينا إذا ألبهم ترتعي وإذ نحن خلف ألبهم مستتران
ولم نك ندري يوم ذلك ما الهوى ولا ما يعود القلب من خفقان
منى النفس ليلى قربى فاك من فمي كما لف منقاريهما غردان
نذق قبلة لا يعرف البؤس بعدها ولا السقم روحانا ولا الجسدان
فكل نعيم في الحياة وغبطة على شفتينا حين تلتقيان
ويخفق صدرانا خفوقا كأنما مع القلب قلب في الجوانح ثان
تنفر ليلى:
ليلى: وكيف؟
قيس: ولم لا؟
ليلى لست قيس فاعلا ولا لي بما تدعو إليه يدان
قيس: أتعصينني يا ليلى؟
ليل: لم أعص آمري ولكن صوتا في الضمير نهاني
وورد يا قيس؟، ورد ما حفلت به لقد ذهلت فلم تجعل له شان
(قيس)غاضبا:
تعنين زوجك يا ليلى؟
(ليلى (منكسة رأسها:
نعم
قيس: ومتى أحببت وردا؟ ترى أحببته الأنا
ليلى: فيم انفجارك؟
قيس: من كيد فجئت به.
ليلى: إني أراك أبا المهدي غيرانا
أجل هو الزوج فاعلم قيس أن له حقا على أؤديه وسلطانا
قيس: اذن تحاببتما؟
ليلى: بل أنت تظلمني فما أحب سواك القلب إنسان
ولست بارحة من داره أبدا حتى يسرحني فضلا وإحسانا
نحن الحرائر إن مال الزمان بنا لم نشك إلا إلى الرحمن بلوانا
قيس: بل تذهبين معي
ليلى: لا، لا أخون له عهدا، فما حاد عهدي ولا خان
فتى كنبع الصفا لم يختلف خلقا ولا تلون كالفتيان ألوانا
(قيس )متهكما:
أراك في حب ورد جد صادقة وكان حبك لي زورا وبهتانا
ليلى: قيس
قيس: خارجا:
اتركيني بلاد الله واسعة غدا أبدل أحبابا وأوطانا
(يحاول أن يتركها فتمسك به ليلى(
ليلى: العقل يا قيس
قيس: لا، خل الرداء دعي
ليلى: ورحمتاه لقيس عاد كانا
(ثم يفلت منها ويندفع إلى سبيله تاركا إياها باكية في هيئة استعطاف .
لمتابعه الجزء الاول
لمتابعه الجزء الثاني
لمتابعه الجزء الرابع
حياتة و نشاته الجزء الثاني
النفي إلى إسبانيا
وفي الفترة التي قضاها شوقي في إسبانيا تعلم لغتها، وأنفق وقته في قراءة كتب التاريخ، خاصة تاريخ الأندلس، وعكف على قراءة عيون الأدب العربي قراءة متأنية، وزار آثار المسلمين وحضارتهم في إشبيلية وقرطبة وغرناطة.وأثمرت هذه القراءات أن نظم شوقي أرجوزته "دول العرب وعظماء الإسلام"، وهي تضم 1400 بيت موزعة على (24) قصيدة، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي، وقد نُشرت بعد وفاته.وفي المنفى اشتد به الحنين إلى الوطن وطال به الاشتياق وملك عليه جوارحه وأنفاسه. ولم يجد من سلوى سوى شعره يبثه لواعج نفسه وخطرات قلبه، وظفر الشعر العربي بقصائد تعد من روائع الشعر صدقًا في العاطفة وجمالاً في التصوير، لعل أشهرها قصيدته التي بعنوان "الرحلة إلى الأندلس"، وهي معارضة لقصيدة البحتري التي يصف فيها إيوان كسرى، ومطلعها:صنت نفسي عما يدنس نفسي وترفعت عن جدا كل جبس
العودة إلى الوطن
عاد شوقي إلى الوطن في سنة (1339هـ = 1920م)، واستقبله الشعب استقبالاً رائعًا واحتشد الآلاف لتحيته، وكان على رأس مستقبليه الشاعر الكبير "حافظ إبراهيم"، وجاءت عودته بعد أن قويت الحركة الوطنية واشتد عودها بعد ثورة 1919م، وتخضبت أرض الوطن بدماء الشهداء، فمال شوقي إلى جانب الشعب، وتغنَّى في شعره بعواطف قومه وعبّر عن آمالهم في التحرر والاستقلال والنظام النيابي والتعليم، ولم يترك مناسبة وطنية إلا سجّل فيها مشاعر الوطن وما يجيش في صدور أبنائه من آمال.
لقد انقطعت علاقته بالقصر واسترد الطائر المغرد حريته، وخرج من القفص الذهبي، وأصبح شاعر الشعب المصري وترجمانه الأمين، فحين يرى زعماء الأحزاب وصحفها يتناحرون فيما بينهم، والمحتل الإنجليزي لا يزال جاثم على صدر الوطن، يصيح فيهم قائلاً:
إلام الخلف بينكم إلاما؟ وهذي الضجة الكبرى علاما؟
وفيم يكيد بعضكم لبعض وتبدون العداوة والخصـاما؟
ورأى في التاريخ الفرعوني وأمجاده ما يثير أبناء الشعب ويدفعهم إلى الأمام والتحرر، فنظم قصائد عن النيل والأهرام وأبي الهول. ولما اكتشفت مقبرة توت عنخ أمون وقف العالم مندهشًا أمام آثارها المبهرة، ورأى شوقي في ذلك فرصة للتغني بأمجاد مصر؛ حتى يُحرِّك في النفوس الأمل ويدفعها إلى الرقي والطموح
وامتد شعر شوقي بأجنحته ليعبر عن آمال العرب وقضاياهم ومعاركهم ضد المستعمر، فنظم في "نكبة دمشق" وفي "نكبة بيروت" وفي ذكرى استقلال سوريا وذكرى شهدائها، ومن أبدع شعره قصيدته في "نكبة دمشق" التي سجّل فيها أحداث الثورة التي اشتعلت في دمشق ضد الاحتلال الفرنسي، ومنها:
بني سوريّة اطرحوا الأماني وألقوا عنكم الأحلام ألقوا*
إمارة الشعر
أصبح شوقي بعد عودته شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها، لا تفوته مناسبة وطنية إلا شارك فيها بشعره، وقابلته الأمة بكل تقدير وأنزلته منزلة عالية، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر سنة (1346هـ = 1927م) في حفل أقيم بدار الأوبرا بمناسبة اختياره عضوًا في مجلس الشيوخ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه "الشوقيات". وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه، وأعلن حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً:
أعيدي على الأسماع ما غردت به براعة شوقي في ابتداء ومقطــع
أمير القوافي قد أتيـــت مبايعًا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
مسرحيات شوقي
بلغ أحمد شوقي قمة مجده، وأحس أنه قد حقق كل أمانيه بعد أن بايعه شعراء العرب بإمارة الشعر فبدأ يتجه إلى فن المسرحية الشعرية، وكان قد بدأ في ذلك أثناء إقامته في فرنسا لكنه عدل عنه إلى فن القصيد وأخذ ينشر على الناس مسرحياته الشعرية الرائعة، استمد اثنتين منها من التاريخ المصري القديم، وهما: "مصرع كليوباترا" و"قمبيز"، والأولى منهما هي أولى مسرحياته ظهورًا
وواحدة من التاريخ الإسلامي هي "مجنون ليلى"، ومثلها من التاريخ العربي القديم هي "عنترة"، وأخرى من التاريخ المصري العثماني وهي "علي بك الكبير"، وله مسرحيتان هزليتان، هما: "الست هدي"، و"البخيلة". ولأمر غير معلوم كتب مسرحية "أميرة الأندلس" نثرًا، مع أن بطلها أو أحد أبطالها البارزين هو الشاعر المعتمد بن عباد.
وقد غلب الطابع الغنائي والأخلاقي على مسرحياته، وضعف الطابع الدرامي، وكانت الحركة المسرحية بطيئة لشدة طول أجزاء كثيرة من الحوار، غير أن هذه المآخذ لا تُفقِد مسرحيات شوقي قيمتها الشعرية الغنائية، ولا تنفي عنها كونها ركيزة الشعر الدرامي في الأدب العربي الحديث.
من قصائده : من أشهر قصائده قصيدة نهج البردة التي نظمها في مدح النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ومطلعها:
ريم على القاع بين البان والعلَم
أحَل سفكْكَ دمى في الأشهر الحُرُم *
لما رَنا حدثتني النفسُ قائلة
يا ويح جنبِكَ بالسهم المُصيبِ رُمى
جٌرْحُ الأحبة عندي غير ذي ألــــم
مثال من قصائده القصيرة التي تخرج عن عادة شعر العرب لذا سميت بالشوقيات
سقط الحمار من السفينة في الدجى
فبكى الرفاق لفقده وترحموا
حتى إذا طـلـع النـهـار أتت به
نحو الســفينة موجة تتقدم
قـالــت خذوه كما أتاني سـالما
لم ابتلـعـه لأنـه لا يهضم
ومن شعره أيضا :
خدعوها بقولهم حسناء
والغواني يغرهن الثناء
أتراها تناست اسمي لما كثرت
في غرامها الأسماء
إن رأتني تميل عني كأن لم
تكن بيني وبينها أشياء
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
يوم كنا ولا تسل كيف كنا
نتهادى من الهوا ما نشاء
وعلينا من العفاف رقيب
تعبت في مراسه الأهواء
جاذبتني ثوب العصي وقالت
أنتم الناس أيها الشعراء
فاتقوا الله في قلوب العذارى
فالعذارى قلوبهن هواء.
مثال آخر من شعره : قف حي شبان الحمى: "نظمها في الطلاب المصريين الذين يطلبون العلم في أوروبا"
قف حي شبان الحمـى قبـل الرحيـل بقافيـــه
عودتهم أمثالهـــــا في الصالحـات الباقيــه
من كل ذات إشـــارة ليسـت عليـهم بخافيــه
قل يا شباب نصيحـــة ممـا يـزود غاليــــه
هل راعكم أن رس في الكنـانة خاويـه
هجرت فكل خليــــة من كل شهـد خاليـــه
وتعطلت هالاتهــــا منكـم وكانت حاليـــه
غدت السياسة وهــى آمرة عليـها ناهيــــه
فهجرتم الوطن العــزيز إلى البلاد القاصيــه
وكذلك من قصائد( يا جارة الوادي(
قصيدة كتبها أمير الشعراء لمدينة (زحلة(
وهي مدينة جميلة معلقة على جانبي مضيق من سفح قاعدة جبل صنين شقته السيول فيما مضى من العصور.
وأبقته مجرى انهر رائع كريم معطاء هو نهر البردوني الشهير النابع من مغارة في سفح صنين .
وما إن تدخل المياه الزائرة المنسابة ما بين الصخور والروابي الرائعة زحلة حتى تستقبلها أشجار الحور والزيزفون والصفصاف والشربين والجوز والسنديان النابتة على جنبات مقاهي وفنادق هي الأولى في الجودة والروعة في لبنان.
وعندما زارها أمير الشعراء أعجبته جداً المناظر الطبيعية الخلابة ووجودها على الوادي جعله يُطلق عليها هذا الاسم.
واليكم القصيدة الرائعة التي أصبحت فيما بعد يتغنى بها الشعراء.
يا جارةَ الوادي طَرِبتُ وعاودني
ما يُشبِهُ الأحلامَ مِن ذِكراكِ
مَثّلتُ في الذِّكرى هواكِ ..وفي الكَرى
والذِكرياتُ صَدى السِنين iالحاكي
ولَقَد مَررتُ على الرّياضِ بربوة
غنّاءَ كُنتُ حَيالَها ألقاكِ
ضَحِكَت إليَّ وجوهُها وَ عُيونها
وَوَجَدتُ في أَنفاسِها رَيّاكِ
لَم أَدرِ ما طيبُ العِناقِ على الهوى
حَتى تَرَفّقَ ساعِدي فَطَواكي
وَتَأوَّدَت أعطافُ بأنك في يدي
وَ احمرَّ مِن خفريهما خدّاكِ
وَدَخَلتُ في لَيلَينِ : فَرعِكِ وَ الدُجى
وَ لَثَمتُ كالصُبحِ المُنَوَّرِ فاكِ
وتَعَطَّلّت لُغَةُ الكَلامِ وَ خاطَبَت
عَينيّ في لُغَةِ الهَوى عيناكِ
لا أَمسِ مِن عُمرِ الزَّمانِ ولا غَدٌ
جُمِعَ الزَّمانُ فَكانَ يَومَ لقاكِ
لمتابعه الجزء الثالث
لمتابعه الجزء الرابع
حياتة و نشاته الجزء الاول
المقــــــــــــدمة
كان الشعر العربي على موعد مع القدر، ينتظر من يأخذ بيده، ويبعث فيه روحًا جديدة تبث فيه الحركة والحياة، وتعيد له الدماء في الأوصال، فتتورد وجنتاه نضرة وجمالاً بعد أن ظل قرونًا عديدة واهن البدن، خامل الحركة، كليل البصر . وشاء الله أن يكون "البارودي" هو الذي يعيد الروح إلى الشعر العربي،
ويلبسه أثوابًا قشيبة، زاهية اللون، بديعة الشكل والصورة، ويوصله بماضيه التليد، بفضل موهبته
الفذة وثقافته الواسعة وتجاربه الغنية ولم يشأ الله تعالى أن يكون البارودي هو وحده فارس الحلبة ونجم عصره- وإن كان له فضل السبق والريادة- فلقيت روحه الشعرية الوثابة نفوسًا تعلقت بها، فملأت الدنيا شعرًا بكوكبة من الشعراء من أمثال: إسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وأحمد محرم، وأحمد نسيم، وأحمد الكاشف، وعبد الحليم المصري. وكان أحمد شوقي هو نجم هذه الكوكبة وأميرها بلا منازع بل عن رضى واختيار، فقد ملأ الدنيا بشعره، وشغل الناس، وأشجى القلوب* .
ـــــــــــــــــ
المولد والنشأة :
ولد أحمد شوقي بحي الحنفي بالقاهرة في (20 من رجب 1287 هـ = 16 من أكتوبر 1870م)
لأب شركسي وأم من أصول يونانية، وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعلى جانب من الغنى والثراء، فتكفلت بتربية حفيدها ونشأ معها في القصر، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بكُتّاب الشيخ صالح، فحفظ قدرًا من القرآن وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية، وأظهر فيها نبوغًا واضحًا كوفئ عليه بإعفائه من مصروفات المدرسة، وانكب على دواوين فحول الشعراء حفظًا واستظهارًا، فبدأ الشعر يجري على لسانه.وبعد أن أنهى تعليمه بالمدرسة وهو في الخامسة عشرة من عمره التحق بمدرسة الحقوق سنة (1303هـ = 1885م)، وانتسب إلى قسم الترجمة الذي قد أنشئ بها حديثًا، وفي هذه الفترة بدأت موهبته الشعرية تلفت نظر أستاذه الشيخ "محمد البسيوني"، ورأى فيه مشروع شاعر كبير، فشجّعه، وكان الشيخ بسيوني يُدّرس البلاغة في مدرسة الحقوق ويُنظِّم الشعر في مدح الخديوي توفيق في المناسبات، وبلغ من إعجابه بموهبة تلميذه أنه كان يعرض عليه قصائده قبل ينشرها في جريدة الوقائع المصرية، وأنه أثنى عليه في حضرة الخديوي، وأفهمه أنه جدير بالرعاية، وهو ما جعل الخديوي يدعوه لمقابلته*.
السفر إلى فرنسا
وبعد عامين من الدراسة تخرّج من المدرسة، والتحق بقصر الخديوي توفيق، الذي ما لبث أن أرسله على نفقته الخاصة إلى فرنسا، فالتحق بجامعة "مونبلييه" لمدة عامين لدراسة القانون، ثم انتقل إلى جامعة باريس لاستكمال دراسته حتى حصل على إجازة الحقوق سنة (1311هـ = 1893م)، ثم مكث أربعة أشهر قبل أن يغادر فرنسا في دراسة الأدب الفرنسي دراسة جيدة ومطالعة إنتاج كبار الكتاب والشعر.
العودة إلى مصر
عاد شوقي إلى مصر فوجد الخديوي عباس حلمي يجلس على عرش مصر، فعيّنه بقسم الترجمة في القصر، ثم ما لم لبث أن توثَّقت علاقته بالخديوي الذي رأى في شعره عونًا له في صراعه مع الإنجليز، فقرَّبه إليه بعد أن ارتفعت منزلته عنده، وخصَّه الشاعر العظيم بمدائحه في غدوه ورواحه، وظل شوقي يعمل في القصر حتى خلع الإنجليز عباس الثاني عن عرش مصر، وأعلنوا الحماية عليها سنة (1941م)، وولّوا حسين كامل سلطنة مصر، وطلبوا من الشاعر مغادرة البلاد، فاختار النفي إلى برشلونة في إسبانيا، وأقام مع أسرته في دار جميلة تطل على البحر المتوسط.
شعره في هذه الفترة
ودار شعر شوقي في هذه الفترة التي سبقت نفيه حول المديح؛ حيث غمر الخديوي عباس حلمي بمدائحه والدفاع عنه، وهجاء أعدائه، ولم يترك مناسبة إلا قدَّم فيها مدحه وتهنئته له، منذ أن جلس على عرش مصر حتى خُلع من الحكم، ويمتلئ الديوان بقصائد كثيرة من هذا الغرض.ووقف شوقي مع الخديوي عباس حلمي في صراعه مع الإنجليز ومع من يوالونهم، لا نقمة على المحتلين فحسب، بل رعاية ودفاعًا عن ولي نعمته كذلك، فهاجم رياض باشا رئيس النُظّار حين ألقى خطابًا أثنى فيه على الإنجليز وأشاد بفضلهم على مصر، وقد هجاه شوقي بقصيدة عنيفة جاء فيها:
غمرت القوم إطراءً وحمدًا وهم غمروك بالنعم الجسام
خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا أضيف إلى مصائبنا العظام
لهجت بالاحتلال وما أتاه وجرحك منه لو أحسست دام
وبلغ من تشيعه للقصر وارتباطه بالخديوي أنه ذمَّ أحمد عرابي وهجاه بقصيدة موجعة، ولم يرث صديقه مصطفى كامل إلا بعد فترة، وكانت قد انقطعت علاقته بالخديوي بعد أن رفع الأخير يده عن مساندة الحركة الوطنية بعد سياسة الوفاق بين الإنجليز والقصر الملكي؛ ولذلك تأخر رثاء شوقي بعد أن استوثق من عدم إغضاب الخديوي، وجاء رثاؤه لمصطفى كامل شديد اللوعة صادق الأحزان، قوي الرنين، بديع السبك والنظم، وإن خلت قصيدته من الحديث عن زعامة مصطفى كامل وجهاده ضد المستعمر، ومطلع القصيدة:
المشرقان عليك ينتحبان قاصميهما في مأتم والدان
يا خادم الإسلام أجر مجاهد في الله من خلد ومن رضوان
وارتبط شوقي بدولة الخلافة العثمانية ارتباطًا وثيقًا، وكانت مصر تابعة لها، فأكثر من مدح سلطانها عبد الحميد الثاني؛ داعيًا المسلمين إلى الالتفات حولها؛ لأنها الرابطة التي تربطهم وتشد من أزرهم، فيقول:
أما الخلافة فهي حائط بيتكم حتى يبين الحشر عن أهواله
ولما انتصرت الدولة العثمانية في حربها مع اليونان سنة (1315هـ = 1987م) كتب مطولة عظيمة بعنوان "صدى الحرب"، أشاد فيها بانتصارات السلطان العثماني، واستهلها بقوله:
بسيفك يعلو والحق أغلب وينصر دين الله أيان تضرب
ولم تكن صلة شوقي بالترك صلة رحم ولا ممالأة لأميره فحسب، وإنما كانت صلة في الله، فقد كان السلطان العثماني خليفة المسلمين، ووجوده يكفل وحدة البلاد الإسلامية ويلم شتاتها، ولم يكن هذا إيمان شوقي وحده، بل كان إيمان كثير من الزعماء المصريين.
وفي هذه الفترة نظم إسلامياته الرائعة، وتعد قصائده في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أبدع شعره قوة في النظم، وصدقًا في العاطفة، وجمالاً في التصوير، وتجديدًا في الموضوع، ومن أشهر قصائده "نهج البردة" التي عارض فيها البوصيري في بردته، وحسبك أن يعجب بها شيخ الجامع الأزهر آنذاك محدث العصر الشيخ "سليم البشري" فينهض لشرحها وبيانها. يقول في مطلع القصيدة
ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
ومن أبياتها في الرد على مزاعم المستشرقين الذين يدعون أن الإسلام انتشر بحد السيف:
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطـة فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
ويلحق بنهج البردة قصائد أخرى، مثل: الهمزية النبوية، وهي معارضة أيضًا للبوصيري، وقصيدة ذكرى المولد التي مطلعها:
سلوا قلبي غداة ســلا وتابا لعل على الجمال له عتابــًا
كما اتجه شوقي إلى الحكاية على لسان الحيوان، وبدأ في نظم هذا الجنس الأدبي منذ أن كان طالبًا في فرنسا؛ ليتخذ منه وسيلة فنية يبث من خلالها نوازعه الأخلاقية والوطنية والاجتماعية، ويوقظ الإحساس بين مواطنيه بمآسي الاستعمار ومكائده.
لمتابعه الجزء الثاني
لمتابعه الجزء الثالث
لمتابعه الجزء الرابع
قصه الأرنبُ وبِنتُ عِرْسِ في السفينة
الأرنبُ وبِنتُ عِرْسِ في السفينة
من بحر الرجز:
فقلقَ الرُّكابُ من بُكائها وبينما الفتاةُ في عَنائها
جاءت عجوزٌ منْ بناتِ عرسِ تقول: أفدي جارتي بنفسي
أنا التي أرجى لهذي الغايهْ لأنني كنت قديماً (دايهْ)
فقالتِ الأرنبُ : لا يا جارهْ فإنَّ بعْدَ الأُلْفةِ الزِّيارهْ
مالي وثوقٌ ببناتِ عِرْسِ إنِّي أريدُ دايَةً منْ جنْسِي!
قصه النعجة وأولادها
النعجة وأولادها
من بحر البسيط:
اسْمَعْ نفائسَ ما يأتيكَ منْ حِكَمي وافْهمْهُ فَهْمَ لبيبٍ ناقدٍ واعيكانت على زعمهم في ما مضى غنمٌ بأرضِ بغدادَ يرعى جَمْعَها راعي
قد نامَ عنها, فنامت غيرَ واحدةٍ لم يدْعُها في الدَّياجي للكَرى دَاعي
أمُّ الفطيمِ, وسعْدٍ, والفتى عَلفٍ وابنِ أمِّهِ , وأخيهِ مُنيةِ الرَّاعي
فبينما هي تحت الليلِ ساهرةٌ تُحَيِّيهِ ما بينَ أوجالٍ وأوجاعِ
بدا لها الذئبُ يسعى في الظلامِ على بعدٍ,فصاحتْ: ألا قوموا إلى السَّاعي!
فقامَ راعي الحمى المرعيِّ منذعراً يقول : أين كلابي أين مقلاعي؟
وضاقَ بالذئبِ وجْهُ الأرْضِ من فَرقٍ فانسابَ فيهِ انسيابَ الظبيِ في القاعِ
فقالتِ الأمُّ: ياللفخرِ! كان أبي حُرَّاً , وكانَ وَفيـَّاً طائلَ الباعِ
إذا الرعاةُ على أغنامها سَهِرَتْ سهرتُ من حُبِّ أطفالي على الراعي!
قصيده قم للمعلم
( قم للمعلم )
قُـم لِـلـمُـعَـلِّمِ وَفِّهِ iiالتَبجيلاكـادَ الـمُـعَـلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَعَـلِـمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي
يَـبـنـي وَيُـنشِئُ أَنفُساً iiوَعُقولا
سُـبـحـانَـكَ الـلَهُمَّ خَيرَ iiمُعَلِّمٍ
عَـلَّـمـتَ بِـالقَلَمِ القُرونَ iiالأولى
أَخـرَجـتَ هَذا العَقلَ مِن iiظُلُماتِهِ
وَهَـدَيـتَـهُ الـنـورَ المُبينَ iiسَبيلا
وَطَـبَـعـتَـهُ بِـيَـدِ المُعَلِّمِ iiتارَةً
صَـدِئَ الـحَـديدُ وَتارَةً مَصقولا
أَرسَـلـتَ بِالتَوراةِ موسى iiمُرشِداً
وَاِبـنَ الـبَـتـولِ فَـعَلَّمَ iiالإِنجيلا
وَفَـجَـرتَ يَـنبوعَ البَيانِ iiمُحَمَّداً
فَـسَـقـى الحَديثَ وَناوَلَ iiالتَنزيلا
عَـلَّـمـتَ يـونـاناً وَمِصرَ فَزالَتا
عَـن كُـلِّ شَـمسٍ ما تُريدُ iiأُفولا
وَالـيَـومَ أَصـبَـحَتا بِحالِ iiطُفولَةٍ
فـي الـعِـلـمِ تَـلتَمِسانِهِ iiتَطفيلا
مِن مَشرِقِ الأَرضِ الشَموسُ تَظاهَرَت
مـا بـالُ مَـغـرِبِـها عَلَيهِ iiأُديلا
يـا أَرضُ مُـذ فَـقَـدَ المُعَلِّمُ iiنَفسَهُ
بَـيـنَ الشُموسِ وَبَينَ شَرقِكِ iiحيلا
ذَهَـبَ الَّـذينَ حَمَوا حَقيقَةَ iiعِلمِهِم
وَاِسـتَـعـذَبوا فيها العَذابَ iiوَبيلا
فـي عـالَـمٍ صَـحِبَ الحَياةَ مُقَيَّداً
بِـالـفَـردِ مَـخـزوماً بِهِ مَغلولا
صَـرَعَـتهُ دُنيا المُستَبِدِّ كَما iiهَوَت
مِـن ضَربَةِ الشَمسِ الرُؤوسُ iiذُهولا
سُـقـراطُ أَعطى الكَأسَ وَهيَ مَنِيَّةٌ
شَـفَـتَـي مُـحِبٍّ يَشتَهي التَقبيلا
عَـرَضـوا الحَياةَ عَلَيهِ وَهيَ غَباوَةٌ
فَـأَبـى وَآثَـرَ أَن يَـمـوتَ iiنَبيلا
إِنَّ الـشَـجـاعَةَ في القُلوبِ iiكَثيرَةٌ
وَوَجَـدتُ شُـجعانَ العُقولِ iiقَليلا
إِنَّ الَّـذي خَـلَـقَ الحَقيقَةَ iiعَلقَماً
لَـم يُـخـلِ مِن أَهلِ الحَقيقَةِ iiجيلا
وَلَـرُبَّـمـا قَـتَـلَ الغَرامُ iiرِجالَها
قُـتِـلَ الـغَـرامُ كَمِ اِستَباحَ iiقَتيلا
أَوَكُـلُّ مَـن حامى عَنِ الحَقِّ iiاِقتَنى
عِـنـدَ الـسَـوادِ ضَغائِناً iiوَذُحولا
لَـو كُـنتُ أَعتَقِدُ الصَليبَ وَخَطبُهُ
لَأَقَـمـتُ مِن صَلبِ المَسيحِ iiدَليلا
أَمُـعَـلِّـمي الوادي وَساسَةَ iiنَشئِهِ
وَالـطـابِـعـيـنَ شَـبابَهُ المَأمولا
وَالـحـامِـلـينَ إِذا دُعوا لِيُعَلِّموا
عِـبءَ الأَمـانَـةِ فادِحاً iiمَسؤولا
كـانَـت لَـنـا قَـدَمٌ إِلَيهِ iiخَفيفَةٌ
وَرِمَـت بِـدَنـلـوبٍ فَكانَ الفيلا
حَـتّـى رَأَيـنا مِصرَ تَخطو iiإِصبَعاً
فـي الـعِلمِ إِن مَشَتِ المَمالِكُ iiميلا
تِـلـكَ الـكُـفورُ وَحَشوُها iiأُمِّيَّةٌ
مِـن عَـهـدِ خوفو لا تَرَ iiالقِنديلا
تَـجِـدُ الَّـذينَ بني المِسَلَّةَ جَدُّهُم
لا يُـحـسِـنـونَ لِإِبـرَةٍ iiتَشكيلا
وَيُـدَلَّـلـونَ إِذا أُريـدَ iiقِـيادُهُم
كَـالـبُـهمِ تَأنَسُ إِذ تَرى iiالتَدليلا
يَـتـلـو الرِجالُ عَلَيهُمُ iiشَهَواتِهِم
فَـالـنـاجِـحـونَ أَلَدُّهُم iiتَرتيلا
الـجَـهـلُ لا تَـحيا عَلَيهِ iiجَماعَةٌ
كَـيـفَ الـحَياةُ عَلى يَدَي عِزريلا
وَالـلَـهِ لَـولا أَلـسُـنٌ وَقَرائِحٌ
دارَت عَـلـى فِطَنِ الشَبابِ شَمولا
وَتَـعَـهَّـدَت مِن أَربَعينَ iiنُفوسَهُم
تَـغـزو الـقُـنوطَ وَتَغرِسُ التَأميلا
عَـرَفَـت مَواضِعَ جَدبِهِم iiفَتَتابَعَت
كَـالـعَـيـنِ فَيضاً وَالغَمامِ مَسيلا
تُـسدي الجَميلَ إِلى البِلادِ iiوَتَستَحي
مِـن أَن تُـكـافَـأَ بِالثَناءِ جَميلا
مـا كـانَ دَنـلـوبٌ وَلا iiتَعليمُهُ
عِـنـدَ الـشَـدائِـدِ يُغنِيانِ iiفَتيلا
رَبّـوا عَـلى الإِنصافِ فِتيانَ iiالحِمى
تَـجِـدوهُمُ كَهفَ الحُقوقِ iiكُهولا
فَـهـوَ الَّـذي يَـبني الطِباعَ iiقَويمَةً
وَهـوَ الَّـذي يَـبني النُفوسَ عُدولا
وَيُـقـيـمُ مَنطِقَ كُلِّ أَعوَجِ iiمَنطِقٍ
وَيُـريـهِ رَأيـاً فـي الأُمورِ iiأَصيلا
وَإِذا الـمُـعَلِّمُ لَم يَكُن عَدلاً iiمَشى
روحُ الـعَـدالَةِ في الشَبابِ iiضَئيلا
وَإِذا الـمُـعَـلِّـمُ ساءَ لَحظَ بَصيرَةٍ
جـاءَت عَـلى يَدِهِ البَصائِرُ iiحولا
وَإِذا أَتـى الإِرشادُ مِن سَبَبِ iiالهَوى
وَمِـنَ الـغُـرورِ فَـسَمِّهِ iiالتَضليلا
وَإِذا أُصـيـبَ الـقَومُ في iiأَخلاقِهِم
فَـأَقِـم عَـلَـيـهِم مَأتَماً iiوَعَويلا
إِنّـي لَأَعـذُرُكُـم وَأَحسَبُ عِبئَكُم
مِـن بَـيـنِ أَعـباءِ الرِجالِ iiثَقيلا
وَجَـدَ الـمُـساعِدَ غَيرُكُم وَحُرِمتُمُ
فـي مِـصـرَ عَونَ الأُمَّهاتِ iiجَليلا
وَإِذا الـنِـسـاءُ نَـشَـأنَ في iiأُمِّيَّةً
رَضَـعَ الـرِجـالُ جَهالَةً iiوَخُمولا
لَـيـسَ الـيَتيمُ مَنِ اِنتَهى أَبَواهُ iiمِن
هَـمِّ الـحَـيـاةِ وَخَـلَّـفاهُ ذَليلا
فَـأَصـابَ بِـالدُنيا الحَكيمَةِ iiمِنهُما
وَبِـحُـسـنِ تَـربِيَةِ الزَمانِ iiبَديلا
إِنَّ الـيَـتـيـمَ هُوَ الَّذي تَلقى iiلَهُ
أُمّـاً تَـخَـلَّـت أَو أَبـاً iiمَشغولا
مِـصـرٌ إِذا مـا راجَـعَت iiأَيّامَها
لَـم تَـلـقَ لِـلسَبتِ العَظيمِ iiمَثيلا
الـبَـرلَـمـانُ غَـداً يُمَدُّ iiرُواقُهُ
ظِـلّاً عَـلى الوادي السَعيدِ iiظَليلا
نَـرجـو إِذا الـتَعليمُ حَرَّكَ iiشَجوَهُ
أَلّا يَـكـونَ عَـلـى البِلادِ iiبَخيلا
قُـل لِـلشَبابِ اليَومَ بورِكَ iiغَرسُكُم
دَنَـتِ الـقُـطوفُ وَذُلِّلَت تَذليلا
حَـيّـوا مِـنَ الشُهَداءِ كُلَّ iiمُغَيَّبٍ
وَضَـعـوا عَـلى أَحجارِهِ iiإِكليلا
لِـيَـكونَ حَظُّ الحَيِّ مِن iiشُكرانِكُم
جَـمّـاً وَحَـظُّ الـمَيتِ مِنهُ جَزيلا
لا يَـلـمَسُ الدُستورُ فيكُم iiروحَهُ
حَـتّـى يَـرى جُـندِيَّهُ iiالمَجهولا
نـاشَـدتُـكُـم تِلكَ الدِماءَ iiزَكِيَّةً
لا تَـبـعَـثـوا لِـلبَرلَمانِ iiجَهولا
فَـلـيَـسـأَلَنَّ عَنِ الأَرائِكِ iiسائِلٌ
أَحَـمَـلنَ فَضلاً أَم حَمَلنَ iiفُضولا
إِن أَنـتَ أَطـلَـعتَ المُمَثِّلَ iiناقِصاً
لَـم تَـلـقَ عِـندَ كَمالِهِ التَمثيلا
فَـاِدعـوا لَها أَهلَ الأَمانَةِ iiوَاِجعَلوا
لِأولـى الـبَـصـائِرِ مِنهُمُ التَفضيلا
إِنَّ الـمُـقَـصِّرَ قَد يَحولُ وَلَن تَرى
لِـجَـهـالَـةِ الطَبعِ الغَبِيِّ iiمُحيلا
فَـلَـرُبَّ قَـولٍ في الرِجالِ iiسَمِعتُمُ
ثُـمَّ اِنـقَـضـى فَـكَأَنَّهُ ما iiقيلا
وَلَـكَـم نَـصَرتُم بِالكَرامَةِ iiوَالهَوى
مَـن كـانَ عِـندَكُمُ هُوَ iiالمَخذولا
كَـرَمٌ وَصَـفحٌ في الشَبابِ iiوَطالَما
كَـرُمَ الـشَـبابُ شَمائِلاً iiوَمُيولا
قـوموا اِجمَعوا شَعبَ الأُبُوَّةِ iiوَاِرفَعوا
صَـوتَ الـشَـبابِ مُحَبَّباً iiمَقبولا
مـا أَبـعَـدَ الـغـايـاتِ إِلّا iiأَنَّني
أَجِـدُ الـثَـبـاتَ لَكُم بِهِنَّ iiكَفيلا
فَـكِـلـوا إِلى اللَهِ النَجاحَ وَثابِروا
فَـالـلَـهُ خَـيـرٌ كافِلاً iiوَوَكيلا