النفي إلى إسبانيا
وفي الفترة التي قضاها شوقي في إسبانيا تعلم لغتها، وأنفق وقته في قراءة كتب التاريخ، خاصة تاريخ الأندلس، وعكف على قراءة عيون الأدب العربي قراءة متأنية، وزار آثار المسلمين وحضارتهم في إشبيلية وقرطبة وغرناطة.وأثمرت هذه القراءات أن نظم شوقي أرجوزته "دول العرب وعظماء الإسلام"، وهي تضم 1400 بيت موزعة على (24) قصيدة، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي، وقد نُشرت بعد وفاته.وفي المنفى اشتد به الحنين إلى الوطن وطال به الاشتياق وملك عليه جوارحه وأنفاسه. ولم يجد من سلوى سوى شعره يبثه لواعج نفسه وخطرات قلبه، وظفر الشعر العربي بقصائد تعد من روائع الشعر صدقًا في العاطفة وجمالاً في التصوير، لعل أشهرها قصيدته التي بعنوان "الرحلة إلى الأندلس"، وهي معارضة لقصيدة البحتري التي يصف فيها إيوان كسرى، ومطلعها:صنت نفسي عما يدنس نفسي وترفعت عن جدا كل جبس
العودة إلى الوطن
عاد شوقي إلى الوطن في سنة (1339هـ = 1920م)، واستقبله الشعب استقبالاً رائعًا واحتشد الآلاف لتحيته، وكان على رأس مستقبليه الشاعر الكبير "حافظ إبراهيم"، وجاءت عودته بعد أن قويت الحركة الوطنية واشتد عودها بعد ثورة 1919م، وتخضبت أرض الوطن بدماء الشهداء، فمال شوقي إلى جانب الشعب، وتغنَّى في شعره بعواطف قومه وعبّر عن آمالهم في التحرر والاستقلال والنظام النيابي والتعليم، ولم يترك مناسبة وطنية إلا سجّل فيها مشاعر الوطن وما يجيش في صدور أبنائه من آمال.
لقد انقطعت علاقته بالقصر واسترد الطائر المغرد حريته، وخرج من القفص الذهبي، وأصبح شاعر الشعب المصري وترجمانه الأمين، فحين يرى زعماء الأحزاب وصحفها يتناحرون فيما بينهم، والمحتل الإنجليزي لا يزال جاثم على صدر الوطن، يصيح فيهم قائلاً:
إلام الخلف بينكم إلاما؟ وهذي الضجة الكبرى علاما؟
وفيم يكيد بعضكم لبعض وتبدون العداوة والخصـاما؟
ورأى في التاريخ الفرعوني وأمجاده ما يثير أبناء الشعب ويدفعهم إلى الأمام والتحرر، فنظم قصائد عن النيل والأهرام وأبي الهول. ولما اكتشفت مقبرة توت عنخ أمون وقف العالم مندهشًا أمام آثارها المبهرة، ورأى شوقي في ذلك فرصة للتغني بأمجاد مصر؛ حتى يُحرِّك في النفوس الأمل ويدفعها إلى الرقي والطموح
وامتد شعر شوقي بأجنحته ليعبر عن آمال العرب وقضاياهم ومعاركهم ضد المستعمر، فنظم في "نكبة دمشق" وفي "نكبة بيروت" وفي ذكرى استقلال سوريا وذكرى شهدائها، ومن أبدع شعره قصيدته في "نكبة دمشق" التي سجّل فيها أحداث الثورة التي اشتعلت في دمشق ضد الاحتلال الفرنسي، ومنها:
بني سوريّة اطرحوا الأماني وألقوا عنكم الأحلام ألقوا*
إمارة الشعر
أصبح شوقي بعد عودته شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها، لا تفوته مناسبة وطنية إلا شارك فيها بشعره، وقابلته الأمة بكل تقدير وأنزلته منزلة عالية، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر سنة (1346هـ = 1927م) في حفل أقيم بدار الأوبرا بمناسبة اختياره عضوًا في مجلس الشيوخ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه "الشوقيات". وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه، وأعلن حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً:
بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي بشعر أمير الدولتين ورجِّعـــي
أعيدي على الأسماع ما غردت به براعة شوقي في ابتداء ومقطــع
أمير القوافي قد أتيـــت مبايعًا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
أعيدي على الأسماع ما غردت به براعة شوقي في ابتداء ومقطــع
أمير القوافي قد أتيـــت مبايعًا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
مسرحيات شوقي
بلغ أحمد شوقي قمة مجده، وأحس أنه قد حقق كل أمانيه بعد أن بايعه شعراء العرب بإمارة الشعر فبدأ يتجه إلى فن المسرحية الشعرية، وكان قد بدأ في ذلك أثناء إقامته في فرنسا لكنه عدل عنه إلى فن القصيد وأخذ ينشر على الناس مسرحياته الشعرية الرائعة، استمد اثنتين منها من التاريخ المصري القديم، وهما: "مصرع كليوباترا" و"قمبيز"، والأولى منهما هي أولى مسرحياته ظهورًا
وواحدة من التاريخ الإسلامي هي "مجنون ليلى"، ومثلها من التاريخ العربي القديم هي "عنترة"، وأخرى من التاريخ المصري العثماني وهي "علي بك الكبير"، وله مسرحيتان هزليتان، هما: "الست هدي"، و"البخيلة". ولأمر غير معلوم كتب مسرحية "أميرة الأندلس" نثرًا، مع أن بطلها أو أحد أبطالها البارزين هو الشاعر المعتمد بن عباد.
وقد غلب الطابع الغنائي والأخلاقي على مسرحياته، وضعف الطابع الدرامي، وكانت الحركة المسرحية بطيئة لشدة طول أجزاء كثيرة من الحوار، غير أن هذه المآخذ لا تُفقِد مسرحيات شوقي قيمتها الشعرية الغنائية، ولا تنفي عنها كونها ركيزة الشعر الدرامي في الأدب العربي الحديث.
من قصائده : من أشهر قصائده قصيدة نهج البردة التي نظمها في مدح النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ومطلعها:
ريم على القاع بين البان والعلَم
أحَل سفكْكَ دمى في الأشهر الحُرُم *
لما رَنا حدثتني النفسُ قائلة
يا ويح جنبِكَ بالسهم المُصيبِ رُمى
جحدتُها وكتمتُ السهم في كبدي
جٌرْحُ الأحبة عندي غير ذي ألــــم
جٌرْحُ الأحبة عندي غير ذي ألــــم
مثال من قصائده القصيرة التي تخرج عن عادة شعر العرب لذا سميت بالشوقيات
سقط الحمار من السفينة في الدجى
فبكى الرفاق لفقده وترحموا
حتى إذا طـلـع النـهـار أتت به
نحو الســفينة موجة تتقدم
قـالــت خذوه كما أتاني سـالما
لم ابتلـعـه لأنـه لا يهضم
ومن شعره أيضا :
خدعوها بقولهم حسناء
والغواني يغرهن الثناء
أتراها تناست اسمي لما كثرت
في غرامها الأسماء
إن رأتني تميل عني كأن لم
تكن بيني وبينها أشياء
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
يوم كنا ولا تسل كيف كنا
نتهادى من الهوا ما نشاء
وعلينا من العفاف رقيب
تعبت في مراسه الأهواء
جاذبتني ثوب العصي وقالت
أنتم الناس أيها الشعراء
فاتقوا الله في قلوب العذارى
فالعذارى قلوبهن هواء.
مثال آخر من شعره : قف حي شبان الحمى: "نظمها في الطلاب المصريين الذين يطلبون العلم في أوروبا"
قف حي شبان الحمـى قبـل الرحيـل بقافيـــه
عودتهم أمثالهـــــا في الصالحـات الباقيــه
من كل ذات إشـــارة ليسـت عليـهم بخافيــه
قل يا شباب نصيحـــة ممـا يـزود غاليــــه
هل راعكم أن رس في الكنـانة خاويـه
هجرت فكل خليــــة من كل شهـد خاليـــه
وتعطلت هالاتهــــا منكـم وكانت حاليـــه
غدت السياسة وهــى آمرة عليـها ناهيــــه
فهجرتم الوطن العــزيز إلى البلاد القاصيــه
وكذلك من قصائد( يا جارة الوادي(
قصيدة كتبها أمير الشعراء لمدينة (زحلة(
وهي مدينة جميلة معلقة على جانبي مضيق من سفح قاعدة جبل صنين شقته السيول فيما مضى من العصور.
وأبقته مجرى انهر رائع كريم معطاء هو نهر البردوني الشهير النابع من مغارة في سفح صنين .
وما إن تدخل المياه الزائرة المنسابة ما بين الصخور والروابي الرائعة زحلة حتى تستقبلها أشجار الحور والزيزفون والصفصاف والشربين والجوز والسنديان النابتة على جنبات مقاهي وفنادق هي الأولى في الجودة والروعة في لبنان.
وعندما زارها أمير الشعراء أعجبته جداً المناظر الطبيعية الخلابة ووجودها على الوادي جعله يُطلق عليها هذا الاسم.
واليكم القصيدة الرائعة التي أصبحت فيما بعد يتغنى بها الشعراء.
يا جارةَ الوادي طَرِبتُ وعاودني
ما يُشبِهُ الأحلامَ مِن ذِكراكِ
مَثّلتُ في الذِّكرى هواكِ ..وفي الكَرى
والذِكرياتُ صَدى السِنين iالحاكي
ولَقَد مَررتُ على الرّياضِ بربوة
غنّاءَ كُنتُ حَيالَها ألقاكِ
ضَحِكَت إليَّ وجوهُها وَ عُيونها
وَوَجَدتُ في أَنفاسِها رَيّاكِ
لَم أَدرِ ما طيبُ العِناقِ على الهوى
حَتى تَرَفّقَ ساعِدي فَطَواكي
وَتَأوَّدَت أعطافُ بأنك في يدي
وَ احمرَّ مِن خفريهما خدّاكِ
وَدَخَلتُ في لَيلَينِ : فَرعِكِ وَ الدُجى
وَ لَثَمتُ كالصُبحِ المُنَوَّرِ فاكِ
وتَعَطَّلّت لُغَةُ الكَلامِ وَ خاطَبَت
عَينيّ في لُغَةِ الهَوى عيناكِ
لا أَمسِ مِن عُمرِ الزَّمانِ ولا غَدٌ
جُمِعَ الزَّمانُ فَكانَ يَومَ لقاكِ
لمتابعه الجزء الثالث
لمتابعه الجزء الرابع
0 التعليقات:
إرسال تعليق