الأحد، 5 مايو 2013

شعره قبل النفى

شعره في هذه الفترة


ودار شعر شوقي في هذه الفترة التي سبقت نفيه حول المديح ؛ حيث غمر الخديوي
عباس حلمي بمدائحه والدفاع عنه ، وهجاء أعدائه ، ولم يترك مناسبة إلا
قدَّم فيها مدحه وتهنئته له ، منذ أن جلس على عرش مصر حتى خُلع من الحكم ،
ويمتلئ الديوان بقصائد كثيرة من هذا الغرض .


ووقف شوقي مع الخديوي عباس حلمي في صراعه مع الإنجليز ومع من يوالونهم ،
لا نقمة على المحتلين فحسب ، بل رعاية ودفاعًا عن ولي نعمته كذلك ، فهاجم
رياض باشا رئيس النُظّار حين ألقى خطابًا أثنى فيه على الإنجليز وأشاد
بفضلهم على مصر ، وقد هجاه شوقي بقصيدة عنيفة جاء فيها :

غمرت القوم إطراءً وحمدًا         وهم غمروك بالنعم الجسام
خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا        أضيف إلى مصائبنا العظام
لهجت بالاحتلال وما أتاه             وجرحك منه لو أحسست دام

وبلغ من تشيعه للقصر وارتباطه بالخديوي أنه ذمَّ أحمد عرابي وهجاه بقصيدة
موجعة ، ولم يرث صديقه مصطفى كامل إلا بعد فترة ، وكانت قد انقطعت علاقته
بالخديوي بعد أن رفع الأخير يده عن مساندة الحركة الوطنية بعد سياسة
الوفاق بين الإنجليز والقصر الملكي ؛ ولذلك تأخر رثاء شوقي بعد أن استوثق
من عدم إغضاب الخديوي ، وجاء رثاؤه لمصطفى كامل شديد اللوعة صادق الأحزان
، قوي الرنين ، بديع السبك والنظم، وإن خلت قصيدته من الحديث عن زعامة
مصطفى كامل وجهاده ضد المستعمر ، ومطلع القصيدة :

المشرقان عليك ينتحبان                  قاصيهما في مأتم والدان

يا خادم الإسلام أجر مجاهد                في الله من خلد ومن رضوان

لمّا نُعيت إلى الحجاز مشى الأسى             في الزائرين وروّع الحرمان


وارتبط شوقي بدولة الخلافة العثمانية ارتباطًا وثيقًا ، وكانت مصر تابعة
لها، فأكثر من مدح سلطانها عبد الحميد الثاني ؛ داعيًا المسلمين إلى
الالتفات حولها ؛ لأنها الرابطة التي تربطهم وتشد من أزرهم ، فيقول :

أما الخلافة فهي حائط بيتكم         حتى يبين الحشر عن أهواله

لا تسمعوا للمرجفين وجهلهم          فمصيبة الإسلام من جهالة


ولما انتصرت الدولة العثمانية في حربها مع اليونان سنة (1315هـ = 1987م)
كتب مطولة عظيمة بعنوان " صدى الحرب " ، أشاد فيها بانتصارات السلطان
العثماني ، واستهلها بقوله :

بسيفك يعلو والحق أغلب          وينصر دين الله أيان تضرب


وهي مطولة تشبه الملاحم ، وقد قسمها إلى أجزاء كأنها الأناشيد في ملحمة ،
فجزء تحت عنوان " أبوة أمير المؤمنين " ، وآخر عن " الجلوس الأسعد " ،
وثالث بعنوان " حلم عظيم وبطش أعظم " . ويبكي سقوط عبد الحميد الثاني في
انقلاب قام به جماعة الاتحاد والترقي ، فينظم رائعة من روائعه العثمانية
التي بعنوان " الانقلاب العثماني وسقوط السلطان عبد الحميد " ، وقد

استهلها بقوله :

سل يلدزا ذات القصور        هل جاءها نبأ البدور

لو تستطيع إجابة               لبكتك بالدمع الغزير


ولم تكن صلة شوقي بالترك صلة رحم ولا ممالأة لأميره فحسب ، وإنما كانت صلة
في الله ، فقد كان السلطان العثماني خليفة المسلمين ، ووجوده يكفل وحدة
البلاد الإسلامية ويلم شتاتها ، ولم يكن هذا إيمان شوقي وحده ، بل كان
إيمان كثير من الزعماء المصريين .

وفي هذه الفترة نظم إسلامياته الرائعة ، وتعد قصائده في مدح الرسول - r -
من أبدع شعره قوة في النظم ، وصدقًا في العاطفة، وجمالاً في التصوير ،
وتجديدًا في الموضوع ، ومن أشهر قصائده " نهج البردة " التي عارض فيها
البوصيري في بردته ، وحسبك أن يعجب بها شيخ الجامع الأزهر آنذاك محدث
العصر الشيخ " سليم البشري " فينهض لشرحها وبيانها . يقول في مطلع القصيدة
:

ريم على القاع بين البان والعلم         أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

ومن أبياتها في الرد على مزاعم المستشرقين الذين يدعون أن الإسلام انتشر بحد السيف :
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا        لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة         فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
ويلحق بنهج البردة قصائد أخرى ، مثل : الهمزية النبوية ، وهي معارضة أيضًا للبوصيري ، وقصيدة ذكرى المولد التي مطلعها :
سلوا قلبي غداة سلا وتابا               لعل على الجمال له عتابًا


كما اتجه شوقي إلى الحكاية على لسان الحيوان ، وبدأ في نظم هذا الجنسة الأدبي منذ أن كان طالبًا في فرنسا ؛ ليتخذ منه وسيلة فنية يبث من خلالها نوازعه الأخلاقية والوطنية والاجتماعية ، ويوقظ الإحساس بين مواطنيه بمآسي الاستعمار ومكائده .

وقد صاغ شوقي هذه الحكايات بأسلوب سهل جذاب ، وبلغ عدد تلك الحكايات 56
حكاية ، نُشرت أول واحدة منها في جريدة " الأهرام " سنة (1310هـ = 1892م ) ، وكانت بعنوان " الهندي والدجاج " ، وفيها يرمز بالهندي لقوات الاحتلال وبالدجاج لمصر .

النفي إلى أسبانيا


وفي الفترة التي قضاها شوقي في أسبانيا تعلم لغتها ، وأنفق وقته في قراءة
كتب التاريخ ، خاصة تاريخ الأندلس ، وعكف على قراءة عيون الأدب العربي
قراءة متأنية ، وزار آثار المسلمين وحضارتهم في اشبيلية وقرطبة وغرناطة .

وأثمرت هذه القراءات أن نظم شوقي أرجوزته " دول العرب وعظماء الإسلام " ،
وهي تضم 1400 بيت موزعة على (24) قصيدة ، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد
النبوة والخلافة الراشدة ، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي
، وقد نُشرت بعد وفاته .
وفي المنفى اشتد به الحنين إلى الوطن وطال به الاشتياق وملك عليه جوارحه
وأنفاسه . ولم يجد من سلوى سوى شعره يبثه لواعج نفسه وخطرات قلبه ، وظفر
الشعر العربي بقصائد تعد من روائع الشعر صدقًا في العاطفة وجمالاً في
التصوير ، لعل أشهرها قصيدته التي بعنوان " الرحلة إلى الأندلس " ، وهي
معارضة لقصيدة البحتري التي يصف فيها إيوان كسرى ، ومطلعها :

صنت نفسي عما يدنس نفسي            وترفعت عن جدا كل جبس


وقد بلغت قصيدة شوقي (110) أبيات تحدّث فيها عن مصر ومعالمها ، وبثَّ
حنينه وشوقه إلى رؤيتها ، كما تناول الأندلس وآثارها الخالدة وزوال دول
المسلمين بها ، ومن أبيات القصيدة التي تعبر عن ذروة حنينه إلى مصر قوله :

أحرام على بلابله الدوح        حلال للطير من كل جنس

وطني لو شُغلت بالخلد عنه        نازعتني إليه في الخلد نفسي

شهد الله لم يغب عن جفوني         شخصه ساعة ولم يخل حسي



العودة إلى الوطن


عاد شوقي إلى الوطن في سنة (1339 هـ = 1920م ) ، و استقبله الشعب
استقبالاً رائعًا واحتشد الآلاف لتحيته ، وكان على رأس مستقبليه الشاعر
الكبير " حافظ إبراهيم " ، وجاءت عودته بعد أن قويت الحركة الوطنية واشتد
عودها بعد ثورة 1919 م ، وتخضبت أرض الوطن بدماء الشهداء ، فمال شوقي إلى
جانب الشعب ، وتغنَّى في شعره بعواطف قومه وعبّر عن آمالهم في التحرر
والاستقلال والنظام النيابي والتعليم ، ولم يترك مناسبة وطنية إلا سجّل
فيها مشاعر الوطن وما يجيش في صدور أبنائه من آمال .

لقد انقطعت علاقته بالقصر واسترد الطائر المغرد حريته ، وخرج من القفص
الذهبي ، وأصبح شاعر الشعب المصري وترجمانه الأمين ، فحين يرى زعماء
الأحزاب وصحفها يتناحرون فيما بينهم ، والمحتل الإنجليزي لا يزال جاثم على
صدر الوطن ، يصيح فيهم قائلاً :

إلام الخلف بينكم إلاما ؟          وهذي الضجة الكبرى علاما ؟

وفيم يكيد بعضكم لبعض             وتبدون العداوة والخصاما ؟

وأين الفوز ؟ لا مصر استقرت            على حال ولا السودان داما


ورأى في التاريخ الفرعوني وأمجاده ما يثير أبناء الشعب ويدفعهم إلى الأمام
والتحرر ، فنظم قصائد عن النيل والأهرام وأبي الهول . ولما اكتشفت مقبرة
توت عنخ آمون وقف العالم مندهشًا أمام آثارها المبهرة ، ورأى شوقي في ذلك
فرصة للتغني بأمجاد مصر ؛ حتى يُحرِّك في النفوس الأمل ويدفعها إلى الرقي
والطموح ، فنظم قصيدة رائعة مطلعها :

قفي يا أخت يوشع خبرينا         أحاديث القرون الغابرينا

وقصي من مصارعهم علينا             ومن دولاتهم ما تعلمينا



وامتد شعر شوقي بأجنحته ليعبر عن آمال العرب وقضاياهم ومعاركهم ضد
المستعمر، فنظم في " نكبة دمشق " وفي " نكبة بيروت " وفي ذكرى استقلال
سوريا وذكرى شهدائها ، ومن أبدع شعره قصيدته في " نكبة دمشق " التي سجّل
فيها أحداث الثورة التي اشتعلت في دمشق ضد الاحتلال الفرنسي، ومنها :

بني سوريّة اطرحوا الأماني            وألقوا عنكم الأحلام ألقوا

وقفتم بين موت أو حياة                فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا

وللأوطان في دم كل حرٍّ                     يد سلفت ودين مستحقُّ

وللحرية الحمراء باب                      بكل يد مضرجة يُدَقُّ


ولم تشغله قضايا وطنه عن متابعة أخبار دولة الخلافة العثمانية ، فقد كان
لها محبًا عن شعور صادق وإيمان جازم بأهميتها في حفظ رابطة العالم
الإسلامي ، وتقوية الأواصر بين شعوبه ، حتى إذا أعلن " مصطفى كمال أتاتورك
" إلغاء الخلافة سنة 1924 وقع الخبر عليه كالصاعقة ، ورثاها رثاءً صادقًا
في قصيدة مبكية مطلعها :

عادت أغاني العرس رجع نواح          ونعيت بين معالم الأفراح

كُفنت في ليل الزفاف بثوبه              ودفنت عند تبلج الإصباح

ضجت عليك مآذن ومنابر               وبكت عليك ممالك ونواح

الهند والهة ومصر حزينة                  تبكي عليك بمدمع سحَّاح


إمارة الشعر


أصبح شوقي بعد عودته شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها ، لا تفوته مناسبة
وطنية إلا شارك فيها بشعره ، وقابلته الأمة بكل تقدير وأنزلته منزلة عالية
، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر سنة ( 1346هـ = 1927م ) في حفل أقيم بدار
الأوبرا بمناسبة اختياره عضوًا في مجلس الشيوخ ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه
"الشوقيات " . وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه ، وأعلن
حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً :

بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي          بشعر أمير الدولتين ورجِّعي

أعيدي على الأسماع ما غردت به         براعة شوقي في ابتداء ومقطع

أمير القوافي قد أتيت مبايعًا              وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

حياتة و نشاته الجزء الرابع

مكانة شوقي


منح الله شوقي موهبة شعرية فذة، وبديهة سيالة، لا يجد عناء في نظم القصيدة، فدائمًا كانت المعاني تنثال عليه انثيالاً وكأنها المطر الهطول، يغمغم بالشعر ماشيًا أو جالسًا بين أصحابه، حاضرًا بينهم بشخصه غائبًا عنهم بفكره؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية؛ إذ بلغ نتاجه الشعري ما يتجاوز ثلاثة وعشرين ألف بيت وخمسمائة بيت، ولعل هذا الرقم لم يبلغه شاعر عربي قديم أو حديث.

وإلى جانب ثقافته العربية كان متقنًا للفرنسية التي مكنته من الاطلاع على آدابها والنهل من فنونها والتأثر بشعرائها، وهذا ما ظهر في بعض نتاجه وما استحدثه في العربية من كتابة المسرحية الشعرية لأول مرة.

وقد جمع شوقي شعره الغنائي في ديوان سماه "الشوقيات"، ثم قام الدكتور محمد صبري السربوني بجمع الأشعار التي لم يضمها ديوانه، وصنع منها ديوانًا جديدًا في مجلدين أطلق عليه "الشوقيات المجهولة".

وفــاته

ظل شوقي محل تقدير الناس وموضع إعجابهم ولسان حالهم، حتى إن الموت فاجأه بعد فراغه من نظم قصيدة طويلة يحيي بها مشروع القرش الذي نهض به شباب مصر، وفاضت روحه الكريمة في (13 من جمادى الآخرة = 14 من أكتوبر 1932م.

الخاتمة   :

في هذا البحث تطرقت لبعض جوانب حياة احمد شوقي ومكانته  ونماذج من أشعاره ودراسة أدبية لمسرحية مجنون ليلى وغير ذلك. وكان شوقي ذا حس لغوي مرهف وفطرة موسيقية بارعة في اختيار الألفاظ التي تتألف مع بعضها لتحدث النغم الذي يثير الطرب ويجذب الأسماع، فجاء شعره لحنًا صافيًا ونغمًا رائعًا لم تعرفه العربية إلا لقلة قليلة من فحول الشعراء.

لمتابعه الجزء الاول

لمتابعه الجزء الثاني

لمتابعه الجزء الثالث


حياتة و نشاته الجزء الثالث

 دراسة أدبيه لمسرحيته" مجنون ليلي ":

هذه هي المسرحية الثانية التي قدمها شوقي إلى الجمهور بعد عودته إلى الكتابة للمسرح في الفترة الأخيرة من حياته . وهي أولى مسرحياته التي اتخذت مادتها الأولية من التاريخ العربي. وقد أدارها حول قصة الشاعر قيس ابن الملوح وحبه لليلى، هذه القصة التي حفتها بعض الأساطير، ولكنها كانت وما تزال من أروع صور هذا الحب العذري الذي اشتهر في بوادي نجد والحجاز أيام لعصر الأموي.

وقد اعتمد المؤلف على أهم الروايات التي تحكى قصة هذا الشاعر، والتي يضمها كتاب "الأغاني" والتي تقول إن قيسا كان يهوى ليلى منذ حداثتيهما وهما يرعيان غنم الأهل، وانه انشد في حبها شعرا كان السبب – فيما بعد – في أن رفض أبوها زواج قيس منها، وذلك على عادة العرب، في عدم تزويج الفتاة ممن يشبب بها. وكان هذا الحب المبرح المحروم سببا في ضعف قيس جسميا وعقليا، حتى هام في بوادي نجد مخبلا، لا ينبهه إلا سماع اسم ليلى، ولا يجذبه إلا الحديث عنها. ورغم سعى بعض المشفقين على قيس لدى أهل ليلى؛ قد خابت كل محاولة في التغلب على رفض زواج الحبيبين، ثم زوجت ليلى لرجل آخر كان قد تقدم إلى أهلها، ولكنها ما فتئت تعانى آلام الحب، حتى ضنيت ثم ماتت. كل هذا وقيس يهيم على وجهه في البادية ولا يجدي شيء في إرجاع رشده إليه. حتى إذا ما علم بموتها مات هو الآخر. بعد أن قال في صاحبته وفي حبه وفي عذابه من أجل هذا الحب، أشعارا تعد من أصدق وأرق وأحر ما قيل من شعر في هذه العاطفة النبيلة.

ولم يهمل المؤلف ما يفيد موضوعه من الأساطير التي نسجت حول هذه القصة، بل اختار منها ما يرى أنه يصلح للمسرحية في روعة مشاهدها ونمو أحداثها، والتعبير عن نفوس أبطالها. وهكذا مزج بين الأخبار وأساطير، مختارا من هذه وتلك ما يؤلف مسرحية تاريخية شعرية، موضوعها الحب العنيف العفيف واصطدامه بالتقاليد، وسقوط البطلين شهيدين لهذا الحب، وبيد تلك التقاليد.
وكان هدف المؤلف من هذه المسرحية هو الإشادة بالنبل العربي، والتغني بسمو العرب وتضحياتهم بحياتهم في سبيل نبيل العواطف، أو من أجل رعاية التقاليد، كما حدث لقيس، وكما جرى لليلى.

وقد قدم شوقي قصة المجنون في خمسة فصول. ففي الفصل الأول نشهد مجلس سمر أمام دار ليلى، حيث يتحدث بعض الفتيان والفتيات عن أخبار السياسة في الحضر والبادية، ثم يتطرق الحديث إلى قيس، ويروى بعضهم قصته مع الظبي الذي رآه يشبه ليلى، والذي تعرض له ذئب فصرعه وأكل بعضه، فرماه قيس بسهم فقتله وبقر بطنه وأخرج من جوفه ما أكل من الظبي ودفنه. ثم يرجو ابن ذريح ليلى أن تعطف على قيس، فتجيبه بأنها في حيرة من أمرها بين الحب لقيس والحفاظ على عرضها الذي مسه تشبيبه.. ثم نرى قيسا يناجي ليلى بعد أن ينفض المجتمعون للسمر، ويكون قد جاء متعللا بطلب قبس من النار، حتى إذا ما جاءت له بما طلب، دخل معها في نجوى غرامية يذهل معها عن نفسه حتى تحرق النار بعض ملابسه وتنفذ إلى لحمه. ثم يأتي المهدي والد ليلى ويعاتبه على ما كان منه، وينصرف قيس.

وفي الفصل الثاني تظهر بلهاء الجارية تحمل ذبيحة قرأ عليها العراف بعض التمائم لكي يأكل قيس قلبها ويشفى مما فيه، ولكن قيسا لا يأكل شيئا؛ لأن الذبيحة منزوعة القلب. ويظهر بعض الغلمان متغنين بشعر قيس، ومنهم من يناصره ومنهم من يعاديه، ويبدو قيس في الطريق مغمى عليه مخبلا، ويراه ابن عوف – أحد رجال الدولة – فيشفق عليه، وحين يسمع قيس اسم ليلى يصحو، ويتعهد له ابن عوف أن يأخذه إلى آل ليلى ليتوسط له لديهم

.
وفي الفصل الثالث نرى ركب الوسيط ابن عوف يبلغ حي آل ليلى، ويلتقي ابن عوف بوالد ليلى الذي يعاتبه على وساطته، ويريد منازل – غريم قيس – أن يثير القوم على العاشق ليقتلوه. ولكن زيادا – نصير قيس – يكشف "منازل" ويبين انه لا يحب ليلى ولا تحبه، فهو حاقد على الحبيبين مغرض في دعوته إلى الانتقام… وتحت إلحاح ابن عوف ومناشدته، يسأل ليلى أبوها في حضرة ابن عوف عن رأيها في الزواج من قيس، فترفض رعاية للتقاليد، وتقبل الزواج من "ورد" الذي علمت أنه تقدم لخطبتها، وينصرف ركب ابن عوف بعد فشل الوساطة.

وفي الفصل الرابع نرى قيسا في عالم الجن، الذي يصور عالمه العقلي المخبول. ويدله شيطانه على الطريق إلى حي ليلي الذي تزوجت فيه. ويرى قيس وردا زوجها الذي يمهد له سبيل اللقاء بليلى كرما منه وسماحة.. وفي هذا اللقاء المنفرد يعرض قيس على ليلى أن تهرب معه إنقاذا لجيبها، ولكنها ترفض رغم حبها له ورعاية للتقاليد، وهنا يثور قيس ويتركها وينصرف غاضبا. وتستشعر ليلى أنها آذت قيسا، ويتضافر هذا الشعور مع حبها المبرح حتى يقودها إلى منيتها. ويتخلل هذا الفصل منظر غنائي راقص وهو منظر عالم الجن.

وفي الفصل الخامس يبدو قبر ليلى طوائف المعزين الذين يتوافدون على أهلها لمواساتهم. ويكون من هؤلاء المعزين بعض المغنين والشعراء كالغرض وابن سعيد. وينشد الغرض نشيد وادي الموت، ثم ينصرف الجميع. وعلى أثر ذلك يظهر قيس وحده، فيعلم بوفاة ليلى من بشر، فيغمى عيه وهو وحيد منفرد، ويحتضر، ثم يظهر ابن ذريح يرثي ليلى، ويحضر موت صاحبها.
وقد حفلت المسرحية بالمواقف "الدرامية" والغنائية الجيدة، التي تآزرت – مع الشعر الرائع – على جعل هذه المسرحية أنجح مسرحيات شوقي جميعا. وقد ساعد على ذلك أن القصة قصة حب إنساني رفيع، وأن البطل شاعر شهير، وأن طرف القصة موضع عطف يجذب إليها المشاعر، ويحني عليهما القلوب. كذلك ساعد على نجاح هذه المسرحية، أن كون البطل شاعرا قد أباح للمؤلف أن يجري على لسانه قطعا شعرية رائعة في المناجيات والشاكيات الأوصاف والتأملات، دون أن يخل ذلك بالبناء الفني للمسرحية، أو يسبب إبطاء حركتها أو إقحام الغنائية عليها، كما حدث في مصرع كليوباترا مثلا. وذلك لأن مثل هذه الأشعار الغنائية في مجنون ليلى من شأنها أن تجري على لسان شاعر، وشاعر محب مدله هائم كمجنون ليلى.

وقد كان المؤلف موفقا حين جعل نصب عينيه – في كثير من الأحيان – شعر البطل نفسه، فكان يعتمد على معانية حينا، كما كان يقتبس بعض نصوصه حينا آخر ، مما جعله أكثر تعبيرا عن حقيقة البطل وواقعه التاريخي والنفسي.
بل أن بعض تلك الأشعار الكثيرة التي أجراها شوقي على لسان بطله، قد لعبت دورا مهما وأساسيا في مسار الأحداث، فهي التي حالت دون زواج الحبيبين، وسببت الأزمة، وهي – في الوقت نفسه – التي كسبت للبطل كثيرا من الأعوان والوسطاء، وأهوت إليه القلوب، شخصيات عديدة في المسرحية، وقلوب آلاف وفيرة من القراء والمشاهدين.
ثم لأن الموضوع عربي، كان إجراء الشعر على ألسنة الشخصيات أكثر ملائمة وأقرب إلى الطبيعة.
وحتى المشاهد الغنائية والإنشادية، كانت في هذه المسرحية أجود وأكثر التصاقا ببنائها وأعظم خدمة لجوها.
ولا ينسى من عوامل نجاح هذه المسرحية وروعة بعض مواقفها، ما كان من ازدياد خبرة المؤلف وإفادته من نقد النقاد لكتابته المسرحية السابقة على هذه المسرحية.

غير أنه يؤخذ على "مجنون ليلى" أن المؤلف قد أعتمد على بعض الحكايات غير المعقولة، والتي لا تخدم المسرحية ولا هدفها. مثل حكاية احتراق قيس بالنار وهو لاه عن نفسه أثناء حديث له مع ليلى، حتى مست النار لحمه.
ومثل قصة رفض قيس أن يطعم من شاة لأنها كانت منزوعة القلب.
ومثل حكايات كثرة إغمائه وإفاقته، التي تظهره متهافتا ضعيف الشخصية في بعض الأحايين .
كذلك يؤخذ على هذه المسرحية أن المؤلف قد جعل بعض الشخصيات تتصرف تصرفات مخالفة للعرف. فمثلا نرى (ورد) في المسرحية – وهو زوج ليلى – يبيح لقاء قيس واختلاءه بصاحبته في بيت الزوجية، وهذا غير مألوف ، مهما قصد به الإشادة بنبل العرب وسماحتهم. ووالد ليلى حين يتقدم إليه ابن عوف ملحا في إتمام زواجها من قيس، يترك الخيار لها لتبدى رأيها، فترفض إيثارا للتقاليد، وهذه من المبالغات المفرطة، مهما أريد الإشادة بمنح الأب العربي الحرية للبنت، ومهما قصد إلى الإشادة برعاية البنت للتقاليد. وليلى في مشهد سمر ليلي نراها تقدم ابن ذريح لصواحبها وتقدمهن له، تماما كما تفعل الفتيات الحضريات في العصر الحديث في بعض النوادي أو حفلات السمر.

وكل هذا مما يخرج المواقف عن طبيعتها المألوفة، ويصرفها عن توقعاتها المنتظرة.
ومأخذ أخير على "مجنون ليلى" وهو أن الصراع النفسي فيها ليس واضحا بالقدر الذي كان من الممكن أن يتحقق. ففي المسرحية مواقف تتيح فرصة تجلية هذا الصراع، وبيان كيف تتصادم المشاعر في داخل النفس الإنسانية. ومن أهم هذه المواقف موقف ليلى، وقد عرض عليها إبداء رأيها في الزواج من قيس. فان المؤلف قد جعل البطلة تعبر في يسر وإيجاز عن رفضها إيثار للتقاليد، وكل ما نحسه منها هو مجرد الندم على هذا التصرف .
بينما كان من الممكن في هذا المجال تصوير صراع الحب والتقاليد في أعماقها، واصطدام صوت القلب بصوت العقل في داخلها، وحرب العرف الجامد للتطوير المرن في وجدانها. ووسائل تجلية هذا الصراع كثيرة يعرفها المتمرسون بصناعة الكتابة المسرحية، فهناك النجوى الداخلية للذات، وهناك الإفضاء والمسار إلى من يؤتمن على السر، ثم هناك الحلم، وما إلى ذلك من الوسائل التعبيرية المسرحية الكثيرة.

وربما كان اهتمام شوقي بالوصف والعرض الخارجي، أكثر من اهتمامه بالتحليل والاستبطان الداخلي، راجعا لرغبته في أن يمزج بين التمثيل والغناء، وعدم رغبته في التمثيل وحده. ومن هنا لم يطالب نفسه بهذا التعمق التحليلي الذي يطالب به مؤلفو المسرحيات الخالصة أنفسهم. وربما كان من الإنصاف أن ينظر إلى مسرحيات شوقي الشعرية من هذه الزاوية. وفي هذا الإطار تعتبر "مجنون ليلى" من أروع مسرحيات شوقي ، ومن خير المسرحيات الشعرية في الأدب المصري الحديث. هذا بالإضافة إلى ما لها ولأخواتها من فضل الريادة في ميدان الأدب المسرحي الشعري.
وهذا مشهد في "مجنون ليلي" حيث يلتقي قيس وصاحبته في دار "ورد" بعد أن تزوجت – كارهة ومضحية – من هذا الأخير، وحيث أتاح "ورد" هذا اللقاء سماحة منه ورحمة بالمجنون:

ليلى: أحق حبيب القلب أنت بجانبي أحلم سرى أم نحن منتبهان
أبعد تراب المهد من أرض عامر بأرض ثقيف نحن مقتربان
قيس: حنانيك ليلى، ما لخل وخلة من الأرض إلا حيث يجتمعان
فكل بلاد قربت منك، منزلي وكل مكان أنت فيه، مكاني
ليلى: فمالي أرى خديك بالدمع بللا أمن فرح عيناك تبتدران
قيس: فداؤك ليلى الروح من شر حادث رماك بهذا السقم والذوبان
ليلى: تراني اذن مهزولة قيس؟ حبذا هزالي ومن كان الهزال كساني
قيس: هو الفكر ليلى، فيمن الفكر؟
ليلى: في الذي تجنى
قيس: كفاني ما لقيت كفاني
ليلى: أأدركت أن السهم يا قيس واحد وأنا كلينا للهوى هدفان
كلانا قيس مذبوحٌ قتيل الأب والأم
طعينان بسكين من العادات والوهم
لقد زوجت ممن لم يكن ذوقي ولا طعمي
ومن يكبر عن سني ومن يصغر عن  علمي
غريب لا من الحي ولا من ولد العم
ولا ثروته تربي على مال أبي الجم
فنحن اليوم في بيت على ضدين منضم
هو السجن وقد لا ينطوي السجن على ظلم
هو القبر حوا ميتين جارين على الرغم
شتيتين وان لم يبعد العظم من العظم
فان القرب بالروح وليس القرب بالجسم
قيس" تعالي نعيش ياليل في ظل قفرة من البيد لم تنقل بها قدمان
تعالي إلى واد خلي وجدول ورنة عصفور وأيكة بان
تعالي إلى ذكرى الصبا وجنونه وأحلام عيش من ضد وأمان
فكم قبلة ياليل في ميعة الصبا وقبل الهوى ليست بذات معان
أخذنا وأعطينا إذا ألبهم ترتعي وإذ نحن خلف ألبهم مستتران
ولم نك ندري يوم ذلك ما الهوى ولا ما يعود القلب من خفقان
منى النفس ليلى قربى فاك من فمي كما لف منقاريهما غردان
نذق قبلة لا يعرف البؤس بعدها ولا السقم روحانا ولا الجسدان
فكل نعيم في الحياة وغبطة على شفتينا حين تلتقيان
ويخفق صدرانا خفوقا كأنما مع القلب قلب في الجوانح ثان
تنفر ليلى:
ليلى: وكيف؟
قيس: ولم لا؟
ليلى لست قيس فاعلا ولا لي بما تدعو إليه يدان
قيس: أتعصينني يا ليلى؟
ليل: لم أعص آمري ولكن صوتا في الضمير نهاني
وورد يا قيس؟، ورد ما حفلت به لقد ذهلت فلم تجعل له شان
(قيس)غاضبا:
تعنين زوجك يا ليلى؟
(ليلى (منكسة رأسها:
نعم
قيس: ومتى أحببت وردا؟ ترى أحببته الأنا
ليلى: فيم انفجارك؟
قيس: من كيد فجئت به.
ليلى: إني أراك أبا المهدي غيرانا
أجل هو الزوج فاعلم قيس أن له حقا على أؤديه وسلطانا
قيس: اذن تحاببتما؟
ليلى: بل أنت تظلمني فما أحب سواك القلب إنسان
ولست بارحة من داره أبدا حتى يسرحني فضلا وإحسانا
نحن الحرائر إن مال الزمان بنا لم نشك إلا إلى الرحمن بلوانا
قيس: بل تذهبين معي
ليلى: لا، لا أخون له عهدا، فما حاد عهدي ولا خان
فتى كنبع الصفا لم يختلف خلقا ولا تلون كالفتيان ألوانا
(قيس )متهكما:
أراك في حب ورد جد صادقة وكان حبك لي زورا وبهتانا
ليلى: قيس
قيس: خارجا:
اتركيني بلاد الله واسعة غدا أبدل أحبابا وأوطانا
(يحاول أن يتركها فتمسك به ليلى(
ليلى: العقل يا قيس
قيس: لا، خل الرداء دعي
ليلى: ورحمتاه لقيس عاد كانا
(ثم يفلت منها ويندفع إلى سبيله تاركا إياها باكية في هيئة استعطاف .


لمتابعه الجزء الاول

لمتابعه الجزء الثاني

لمتابعه الجزء الرابع


حياتة و نشاته الجزء الثاني

النفي إلى إسبانيا

 وفي الفترة التي قضاها شوقي في إسبانيا تعلم لغتها، وأنفق وقته في قراءة كتب التاريخ، خاصة تاريخ الأندلس، وعكف على قراءة عيون الأدب العربي قراءة متأنية، وزار آثار المسلمين وحضارتهم في إشبيلية وقرطبة وغرناطة.وأثمرت هذه القراءات أن نظم شوقي أرجوزته "دول العرب وعظماء الإسلام"، وهي تضم 1400 بيت موزعة على (24) قصيدة، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي، وقد نُشرت بعد وفاته.وفي المنفى اشتد به الحنين إلى الوطن وطال به الاشتياق وملك عليه جوارحه وأنفاسه. ولم يجد من سلوى سوى شعره يبثه لواعج نفسه وخطرات قلبه، وظفر الشعر العربي بقصائد تعد من روائع الشعر صدقًا في العاطفة وجمالاً في التصوير، لعل أشهرها قصيدته التي بعنوان "الرحلة إلى الأندلس"، وهي معارضة لقصيدة البحتري التي يصف فيها إيوان كسرى، ومطلعها:

         صنت نفسي عما يدنس نفسي           وترفعت عن جدا كل جبس

العودة إلى الوطن


 عاد شوقي إلى الوطن في سنة (1339هـ = 1920م)، واستقبله الشعب استقبالاً رائعًا واحتشد الآلاف لتحيته، وكان على رأس مستقبليه الشاعر الكبير "حافظ إبراهيم"، وجاءت عودته بعد أن قويت الحركة الوطنية واشتد عودها بعد ثورة 1919م، وتخضبت أرض الوطن بدماء الشهداء، فمال شوقي إلى جانب الشعب، وتغنَّى في شعره بعواطف قومه وعبّر عن آمالهم في التحرر والاستقلال والنظام النيابي والتعليم، ولم يترك مناسبة وطنية إلا سجّل فيها مشاعر الوطن وما يجيش في صدور أبنائه من آمال.

                                               

لقد انقطعت علاقته بالقصر واسترد الطائر المغرد حريته، وخرج من القفص الذهبي، وأصبح شاعر الشعب المصري وترجمانه الأمين، فحين يرى زعماء الأحزاب وصحفها يتناحرون فيما بينهم، والمحتل الإنجليزي لا يزال جاثم على صدر الوطن، يصيح فيهم قائلاً:

             إلام الخلف بينكم إلاما؟                    وهذي الضجة الكبرى علاما؟

          وفيم يكيد بعضكم لبعض                   وتبدون العداوة والخصـاما؟


ورأى في التاريخ الفرعوني وأمجاده ما يثير أبناء الشعب ويدفعهم إلى الأمام والتحرر، فنظم قصائد عن النيل والأهرام وأبي الهول. ولما اكتشفت مقبرة توت عنخ أمون وقف العالم مندهشًا أمام آثارها المبهرة، ورأى شوقي في ذلك فرصة للتغني بأمجاد مصر؛ حتى يُحرِّك في النفوس الأمل ويدفعها إلى الرقي والطموح

وامتد شعر شوقي بأجنحته ليعبر عن آمال العرب وقضاياهم ومعاركهم ضد المستعمر، فنظم في "نكبة دمشق" وفي "نكبة بيروت" وفي ذكرى استقلال سوريا وذكرى شهدائها، ومن أبدع شعره قصيدته في "نكبة دمشق" التي سجّل فيها أحداث الثورة التي اشتعلت في دمشق ضد الاحتلال الفرنسي، ومنها:        

          بني سوريّة اطرحوا الأماني            وألقوا عنكم الأحلام ألقوا*

 إمارة الشعر


أصبح شوقي بعد عودته شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها، لا تفوته مناسبة وطنية إلا شارك فيها بشعره، وقابلته الأمة بكل تقدير وأنزلته منزلة عالية، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر سنة (1346هـ = 1927م) في حفل أقيم بدار الأوبرا بمناسبة اختياره عضوًا في مجلس الشيوخ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه "الشوقيات". وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه، وأعلن حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً:   
   بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي         بشعر أمير الدولتين ورجِّعـــي

 أعيدي على الأسماع ما غردت به        براعة شوقي في ابتداء ومقطــع

 أمير القوافي قد أتيـــت مبايعًا          وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

مسرحيات شوقي                                                                     


بلغ أحمد شوقي قمة مجده، وأحس أنه قد حقق كل أمانيه بعد أن بايعه شعراء العرب بإمارة الشعر فبدأ يتجه إلى فن المسرحية الشعرية، وكان قد بدأ في ذلك أثناء إقامته في فرنسا لكنه عدل عنه إلى فن القصيد وأخذ ينشر على الناس مسرحياته الشعرية الرائعة، استمد اثنتين منها من التاريخ المصري القديم، وهما: "مصرع كليوباترا" و"قمبيز"، والأولى منهما هي أولى مسرحياته ظهورًا

 وواحدة من التاريخ الإسلامي هي "مجنون ليلى"، ومثلها من التاريخ العربي القديم هي "عنترة"، وأخرى من التاريخ المصري العثماني وهي "علي بك الكبير"، وله مسرحيتان هزليتان، هما: "الست هدي"، و"البخيلة".  ولأمر غير معلوم كتب مسرحية "أميرة الأندلس" نثرًا، مع أن بطلها أو أحد أبطالها البارزين هو الشاعر المعتمد بن عباد.

وقد غلب الطابع الغنائي والأخلاقي على مسرحياته، وضعف الطابع الدرامي، وكانت الحركة المسرحية بطيئة لشدة طول أجزاء كثيرة من الحوار، غير أن هذه المآخذ لا تُفقِد مسرحيات شوقي قيمتها الشعرية الغنائية، ولا تنفي عنها كونها ركيزة الشعر الدرامي في الأدب العربي الحديث.


من قصائده : من أشهر قصائده قصيدة نهج البردة التي نظمها في مدح النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ومطلعها:

ريم على القاع بين البان والعلَم
أحَل سفكْكَ دمى في الأشهر الحُرُم *
لما رَنا حدثتني النفسُ قائلة
يا ويح جنبِكَ بالسهم المُصيبِ رُمى
 
جحدتُها وكتمتُ السهم في كبدي
جٌرْحُ الأحبة عندي غير ذي ألــــم

مثال من قصائده القصيرة التي تخرج عن عادة شعر العرب لذا سميت بالشوقيات

سقط الحمار من السفينة في الدجى
فبكى الرفاق لفقده وترحموا
حتى إذا طـلـع النـهـار أتت به
نحو الســفينة موجة تتقدم
قـالــت خذوه كما أتاني سـالما
لم ابتلـعـه لأنـه لا يهضم

ومن شعره أيضا :


خدعوها بقولهم حسناء
والغواني يغرهن الثناء
أتراها تناست اسمي لما كثرت
في غرامها الأسماء
إن رأتني تميل عني كأن لم
تكن بيني وبينها أشياء
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
يوم كنا ولا تسل كيف كنا
نتهادى من الهوا ما نشاء
وعلينا من العفاف رقيب
تعبت في مراسه الأهواء
جاذبتني ثوب العصي وقالت
أنتم الناس أيها الشعراء
فاتقوا الله في قلوب العذارى
فالعذارى قلوبهن هواء.


مثال آخر من شعره : قف حي شبان الحمى: "نظمها في الطلاب المصريين الذين يطلبون العلم في أوروبا"

قف حي  شبان الحمـى قبـل الرحيـل بقافيـــه
عودتهم أمثالهـــــا في الصالحـات الباقيــه
من كل ذات إشـــارة ليسـت عليـهم بخافيــه
قل يا شباب نصيحـــة ممـا يـزود غاليــــه
هل راعكم أن رس في الكنـانة خاويـه
هجرت فكل خليــــة من كل شهـد خاليـــه
وتعطلت هالاتهــــا منكـم وكانت حاليـــه
غدت السياسة وهــى آمرة عليـها ناهيــــه
فهجرتم الوطن العــزيز إلى البلاد القاصيــه


وكذلك من قصائد( يا جارة الوادي(

قصيدة كتبها أمير الشعراء لمدينة (زحلة(

وهي مدينة جميلة معلقة على جانبي مضيق من سفح قاعدة جبل صنين شقته السيول فيما مضى من العصور.
وأبقته مجرى انهر رائع كريم معطاء هو نهر البردوني الشهير النابع من مغارة في سفح صنين .
وما إن تدخل المياه الزائرة المنسابة ما بين الصخور والروابي الرائعة زحلة حتى تستقبلها أشجار الحور والزيزفون والصفصاف والشربين والجوز والسنديان النابتة على جنبات مقاهي وفنادق هي الأولى في الجودة والروعة في لبنان.

وعندما زارها أمير الشعراء أعجبته جداً المناظر الطبيعية الخلابة ووجودها على الوادي جعله يُطلق عليها هذا الاسم. 

واليكم القصيدة الرائعة التي أصبحت فيما بعد يتغنى بها الشعراء.

يا جارةَ الوادي طَرِبتُ وعاودني
ما يُشبِهُ الأحلامَ مِن ذِكراكِ

مَثّلتُ في الذِّكرى هواكِ ..وفي الكَرى
والذِكرياتُ صَدى السِنين iالحاكي

ولَقَد مَررتُ على الرّياضِ بربوة
غنّاءَ كُنتُ حَيالَها ألقاكِ



ضَحِكَت إليَّ وجوهُها وَ عُيونها
وَوَجَدتُ في أَنفاسِها رَيّاكِ


لَم أَدرِ ما طيبُ العِناقِ على الهوى
حَتى تَرَفّقَ ساعِدي فَطَواكي


وَتَأوَّدَت أعطافُ بأنك في يدي
وَ احمرَّ مِن خفريهما خدّاكِ


وَدَخَلتُ في لَيلَينِ : فَرعِكِ وَ الدُجى
وَ لَثَمتُ كالصُبحِ المُنَوَّرِ فاكِ

وتَعَطَّلّت لُغَةُ الكَلامِ وَ خاطَبَت
عَينيّ في لُغَةِ الهَوى عيناكِ

لا أَمسِ مِن عُمرِ الزَّمانِ ولا غَدٌ
جُمِعَ الزَّمانُ فَكانَ يَومَ لقاكِ


لمتابعه الجزء الاول

لمتابعه الجزء الثالث

لمتابعه الجزء الرابع



حياتة و نشاته الجزء الاول

المقــــــــــــدمة


كان الشعر العربي على موعد مع القدر، ينتظر من يأخذ بيده، ويبعث فيه روحًا جديدة تبث فيه الحركة والحياة، وتعيد له الدماء في الأوصال، فتتورد وجنتاه نضرة وجمالاً بعد أن ظل قرونًا عديدة واهن البدن، خامل الحركة، كليل البصر . وشاء الله أن يكون "البارودي" هو الذي يعيد الروح إلى الشعر العربي،

ويلبسه أثوابًا قشيبة، زاهية اللون، بديعة الشكل والصورة، ويوصله بماضيه التليد، بفضل موهبته

الفذة وثقافته الواسعة وتجاربه الغنية ولم يشأ الله تعالى أن يكون البارودي هو وحده فارس الحلبة ونجم عصره- وإن كان له فضل السبق والريادة- فلقيت روحه الشعرية الوثابة نفوسًا تعلقت بها، فملأت الدنيا شعرًا بكوكبة من الشعراء من أمثال: إسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وأحمد محرم، وأحمد نسيم، وأحمد الكاشف، وعبد الحليم المصري. وكان أحمد شوقي هو نجم هذه الكوكبة وأميرها بلا منازع بل عن رضى واختيار، فقد ملأ الدنيا بشعره، وشغل الناس، وأشجى القلوب* .                                 

 ـــــــــــــــــ

 المولد والنشأة  :


  ولد أحمد شوقي بحي الحنفي بالقاهرة في (20 من رجب 1287 هـ = 16 من أكتوبر 1870م) 

 لأب شركسي وأم من أصول يونانية، وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعلى جانب من الغنى والثراء، فتكفلت بتربية حفيدها ونشأ معها في القصر، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بكُتّاب الشيخ صالح، فحفظ قدرًا من القرآن وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية، وأظهر فيها نبوغًا واضحًا كوفئ عليه بإعفائه من مصروفات المدرسة، وانكب على دواوين فحول الشعراء حفظًا واستظهارًا، فبدأ الشعر يجري على لسانه.وبعد أن أنهى تعليمه بالمدرسة وهو في الخامسة عشرة من عمره التحق بمدرسة الحقوق سنة (1303هـ = 1885م)، وانتسب إلى قسم الترجمة الذي قد أنشئ بها حديثًا، وفي هذه الفترة بدأت موهبته الشعرية تلفت نظر أستاذه الشيخ "محمد البسيوني"، ورأى فيه مشروع شاعر كبير، فشجّعه، وكان الشيخ بسيوني يُدّرس البلاغة في مدرسة الحقوق ويُنظِّم الشعر في مدح الخديوي توفيق في المناسبات، وبلغ من إعجابه بموهبة تلميذه أنه كان يعرض عليه قصائده قبل ينشرها في جريدة الوقائع المصرية، وأنه أثنى عليه في حضرة الخديوي، وأفهمه أنه جدير بالرعاية، وهو ما جعل الخديوي يدعوه لمقابلته*.

                                         

السفر إلى فرنسا

وبعد عامين من الدراسة تخرّج من المدرسة، والتحق بقصر الخديوي توفيق، الذي ما لبث أن أرسله على نفقته الخاصة إلى فرنسا، فالتحق بجامعة "مونبلييه" لمدة عامين لدراسة القانون، ثم انتقل إلى جامعة باريس لاستكمال دراسته حتى حصل على إجازة الحقوق سنة (1311هـ = 1893م)، ثم مكث أربعة أشهر قبل أن يغادر فرنسا في دراسة الأدب الفرنسي دراسة جيدة ومطالعة إنتاج كبار الكتاب والشعر.

العودة إلى مصر

 عاد شوقي إلى مصر فوجد الخديوي عباس حلمي يجلس على عرش مصر، فعيّنه بقسم الترجمة في القصر، ثم ما لم لبث أن توثَّقت علاقته بالخديوي الذي رأى في شعره عونًا له في صراعه مع الإنجليز، فقرَّبه إليه بعد أن ارتفعت منزلته عنده، وخصَّه الشاعر العظيم بمدائحه في غدوه ورواحه، وظل شوقي يعمل في القصر حتى خلع الإنجليز عباس الثاني عن عرش مصر، وأعلنوا الحماية عليها سنة (1941م)، وولّوا حسين كامل سلطنة مصر، وطلبوا من الشاعر مغادرة البلاد، فاختار النفي إلى برشلونة في إسبانيا، وأقام مع أسرته في دار جميلة تطل على البحر المتوسط.

شعره في هذه الفترة

ودار شعر شوقي في هذه الفترة التي سبقت نفيه حول المديح؛ حيث غمر الخديوي عباس حلمي بمدائحه والدفاع عنه، وهجاء أعدائه، ولم يترك مناسبة إلا قدَّم فيها مدحه وتهنئته له، منذ أن جلس على عرش مصر حتى خُلع من الحكم، ويمتلئ الديوان بقصائد كثيرة من هذا الغرض.ووقف شوقي مع الخديوي عباس حلمي في صراعه مع الإنجليز ومع من يوالونهم، لا نقمة على المحتلين فحسب، بل رعاية ودفاعًا عن ولي نعمته كذلك، فهاجم رياض باشا رئيس النُظّار حين ألقى خطابًا أثنى فيه على الإنجليز وأشاد بفضلهم على مصر، وقد هجاه شوقي بقصيدة عنيفة جاء فيها:

            غمرت القوم إطراءً وحمدًا      وهم غمروك بالنعم الجسام

            خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا     أضيف إلى مصائبنا العظام

            لهجت بالاحتلال وما أتاه         وجرحك منه لو أحسست دام


وبلغ من تشيعه للقصر وارتباطه بالخديوي أنه ذمَّ أحمد عرابي وهجاه بقصيدة موجعة، ولم يرث صديقه مصطفى كامل إلا بعد فترة، وكانت قد انقطعت علاقته بالخديوي بعد أن رفع الأخير يده عن مساندة الحركة الوطنية بعد سياسة الوفاق بين الإنجليز والقصر الملكي؛ ولذلك تأخر رثاء شوقي بعد أن استوثق من عدم إغضاب الخديوي، وجاء رثاؤه لمصطفى كامل شديد اللوعة صادق الأحزان، قوي الرنين، بديع السبك والنظم، وإن خلت قصيدته من الحديث عن زعامة مصطفى كامل وجهاده ضد المستعمر، ومطلع القصيدة:

           المشرقان عليك ينتحبان                      قاصميهما في مأتم والدان                

          يا خادم الإسلام أجر مجاهد                  في الله من خلد ومن رضوان


وارتبط شوقي بدولة الخلافة العثمانية ارتباطًا وثيقًا، وكانت مصر تابعة لها، فأكثر من مدح سلطانها عبد الحميد الثاني؛ داعيًا المسلمين إلى الالتفات حولها؛ لأنها الرابطة التي تربطهم وتشد من أزرهم، فيقول:

              أما الخلافة فهي حائط بيتكم               حتى يبين الحشر عن أهواله

ولما انتصرت الدولة العثمانية في حربها مع اليونان سنة (1315هـ = 1987م) كتب مطولة عظيمة بعنوان "صدى الحرب"، أشاد فيها بانتصارات السلطان العثماني، واستهلها بقوله:

     بسيفك يعلو والحق أغلب                  وينصر دين الله أيان تضرب

 ولم تكن صلة شوقي بالترك صلة رحم ولا ممالأة لأميره فحسب، وإنما كانت صلة في الله، فقد كان السلطان العثماني خليفة المسلمين، ووجوده يكفل وحدة البلاد الإسلامية ويلم شتاتها، ولم يكن هذا إيمان شوقي وحده، بل كان إيمان كثير من الزعماء المصريين.

وفي هذه الفترة نظم إسلامياته الرائعة، وتعد قصائده في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أبدع شعره قوة في النظم، وصدقًا في العاطفة، وجمالاً في التصوير، وتجديدًا في الموضوع، ومن أشهر قصائده "نهج البردة" التي عارض فيها البوصيري في بردته، وحسبك أن يعجب بها شيخ الجامع الأزهر آنذاك محدث العصر الشيخ "سليم البشري" فينهض لشرحها وبيانها. يقول في مطلع القصيدة

    ريم على القاع بين البان والعلم             أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

ومن أبياتها في الرد على مزاعم المستشرقين الذين يدعون أن الإسلام انتشر بحد السيف:

           قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا           لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم

        جهل وتضليل أحلام وسفسطـة           فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم


ويلحق بنهج البردة قصائد أخرى، مثل: الهمزية النبوية، وهي معارضة أيضًا للبوصيري، وقصيدة ذكرى المولد التي مطلعها:      

      سلوا قلبي غداة ســلا وتابا            لعل على الجمال له عتابــًا

كما اتجه شوقي إلى الحكاية على لسان الحيوان، وبدأ في نظم هذا الجنس الأدبي منذ أن كان طالبًا في فرنسا؛ ليتخذ منه وسيلة فنية يبث من خلالها نوازعه الأخلاقية والوطنية والاجتماعية، ويوقظ الإحساس بين مواطنيه بمآسي الاستعمار ومكائده.


لمتابعه الجزء الثاني

لمتابعه الجزء الثالث

لمتابعه الجزء الرابع

قصه الأرنبُ وبِنتُ عِرْسِ في السفينة

الأرنبُ وبِنتُ عِرْسِ في السفينة

من بحر الرجز:


قد حَمَلتْ إحْدى نِسا الأرانِبِ                    وحلَّ يومُ وضعها في المَركبِ

فقلقَ الرُّكابُ من بُكائها                    وبينما الفتاةُ في عَنائها

جاءت عجوزٌ منْ بناتِ عرسِ                    تقول: أفدي جارتي بنفسي

أنا التي أرجى لهذي الغايهْ                    لأنني كنت قديماً (دايهْ)

فقالتِ الأرنبُ : لا يا جارهْ                    فإنَّ بعْدَ الأُلْفةِ الزِّيارهْ

مالي وثوقٌ ببناتِ عِرْسِ                    إنِّي أريدُ دايَةً منْ جنْسِي!

قصه النعجة وأولادها

النعجة وأولادها

من بحر البسيط:

اسْمَعْ نفائسَ ما يأتيكَ منْ حِكَمي            وافْهمْهُ فَهْمَ لبيبٍ ناقدٍ واعي

كانت على زعمهم في ما مضى غنمٌ            بأرضِ بغدادَ يرعى جَمْعَها راعي

قد نامَ عنها, فنامت غيرَ واحدةٍ            لم يدْعُها في الدَّياجي للكَرى دَاعي

أمُّ الفطيمِ, وسعْدٍ, والفتى عَلفٍ            وابنِ أمِّهِ , وأخيهِ مُنيةِ الرَّاعي

فبينما هي تحت الليلِ ساهرةٌ            تُحَيِّيهِ ما بينَ أوجالٍ وأوجاعِ

بدا لها الذئبُ يسعى في الظلامِ على            بعدٍ,فصاحتْ: ألا قوموا إلى السَّاعي!

فقامَ راعي الحمى المرعيِّ منذعراً            يقول : أين كلابي أين مقلاعي؟

وضاقَ بالذئبِ وجْهُ الأرْضِ من فَرقٍ            فانسابَ فيهِ انسيابَ الظبيِ في القاعِ

فقالتِ الأمُّ: ياللفخرِ! كان أبي            حُرَّاً , وكانَ وَفيـَّاً طائلَ الباعِ

إذا الرعاةُ على أغنامها سَهِرَتْ            سهرتُ من حُبِّ أطفالي على الراعي!

قصه الحمار في السفينة

الحمار في السفينة

من بحر الكامل:

 


سقط َالحِمارُ من السفينةِ في الدُّجى                    فبكى الرفاقُ لفقدهِ, وترحَّموا

حتَّى إذا طلعَ النهارُ أتتْ بهِ                    نحو السفينةِ مَوجةٌ تتقدمُ

قالتْ: خذوهُ كما أتاني سَالماً                    لم أبْتلِعْهُ, لأنهُ لا يُهْضَمُ

قصيده قم للمعلم

( قم للمعلم )

قُـم لِـلـمُـعَـلِّمِ وَفِّهِ iiالتَبجيلا

كـادَ الـمُـعَـلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا

أَعَـلِـمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي

يَـبـنـي وَيُـنشِئُ أَنفُساً iiوَعُقولا

سُـبـحـانَـكَ الـلَهُمَّ خَيرَ iiمُعَلِّمٍ

عَـلَّـمـتَ بِـالقَلَمِ القُرونَ iiالأولى

أَخـرَجـتَ هَذا العَقلَ مِن iiظُلُماتِهِ

وَهَـدَيـتَـهُ الـنـورَ المُبينَ iiسَبيلا

وَطَـبَـعـتَـهُ بِـيَـدِ المُعَلِّمِ iiتارَةً

صَـدِئَ الـحَـديدُ وَتارَةً مَصقولا

أَرسَـلـتَ بِالتَوراةِ موسى iiمُرشِداً

وَاِبـنَ الـبَـتـولِ فَـعَلَّمَ iiالإِنجيلا

وَفَـجَـرتَ يَـنبوعَ البَيانِ iiمُحَمَّداً

فَـسَـقـى الحَديثَ وَناوَلَ iiالتَنزيلا

عَـلَّـمـتَ يـونـاناً وَمِصرَ فَزالَتا

عَـن كُـلِّ شَـمسٍ ما تُريدُ iiأُفولا

وَالـيَـومَ أَصـبَـحَتا بِحالِ iiطُفولَةٍ

فـي الـعِـلـمِ تَـلتَمِسانِهِ iiتَطفيلا

مِن مَشرِقِ الأَرضِ الشَموسُ تَظاهَرَت

مـا بـالُ مَـغـرِبِـها عَلَيهِ iiأُديلا

يـا أَرضُ مُـذ فَـقَـدَ المُعَلِّمُ iiنَفسَهُ

بَـيـنَ الشُموسِ وَبَينَ شَرقِكِ iiحيلا

ذَهَـبَ الَّـذينَ حَمَوا حَقيقَةَ iiعِلمِهِم

وَاِسـتَـعـذَبوا فيها العَذابَ iiوَبيلا

فـي عـالَـمٍ صَـحِبَ الحَياةَ مُقَيَّداً

بِـالـفَـردِ مَـخـزوماً بِهِ مَغلولا

صَـرَعَـتهُ دُنيا المُستَبِدِّ كَما iiهَوَت

مِـن ضَربَةِ الشَمسِ الرُؤوسُ iiذُهولا

سُـقـراطُ أَعطى الكَأسَ وَهيَ مَنِيَّةٌ

شَـفَـتَـي مُـحِبٍّ يَشتَهي التَقبيلا

عَـرَضـوا الحَياةَ عَلَيهِ وَهيَ غَباوَةٌ

فَـأَبـى وَآثَـرَ أَن يَـمـوتَ iiنَبيلا

إِنَّ الـشَـجـاعَةَ في القُلوبِ iiكَثيرَةٌ

وَوَجَـدتُ شُـجعانَ العُقولِ iiقَليلا

إِنَّ الَّـذي خَـلَـقَ الحَقيقَةَ iiعَلقَماً

لَـم يُـخـلِ مِن أَهلِ الحَقيقَةِ iiجيلا

وَلَـرُبَّـمـا قَـتَـلَ الغَرامُ iiرِجالَها

قُـتِـلَ الـغَـرامُ كَمِ اِستَباحَ iiقَتيلا

أَوَكُـلُّ مَـن حامى عَنِ الحَقِّ iiاِقتَنى

عِـنـدَ الـسَـوادِ ضَغائِناً iiوَذُحولا

لَـو كُـنتُ أَعتَقِدُ الصَليبَ وَخَطبُهُ

لَأَقَـمـتُ مِن صَلبِ المَسيحِ iiدَليلا

أَمُـعَـلِّـمي الوادي وَساسَةَ iiنَشئِهِ

وَالـطـابِـعـيـنَ شَـبابَهُ المَأمولا

وَالـحـامِـلـينَ إِذا دُعوا لِيُعَلِّموا

عِـبءَ الأَمـانَـةِ فادِحاً iiمَسؤولا

كـانَـت لَـنـا قَـدَمٌ إِلَيهِ iiخَفيفَةٌ

وَرِمَـت بِـدَنـلـوبٍ فَكانَ الفيلا

حَـتّـى رَأَيـنا مِصرَ تَخطو iiإِصبَعاً

فـي الـعِلمِ إِن مَشَتِ المَمالِكُ iiميلا

تِـلـكَ الـكُـفورُ وَحَشوُها iiأُمِّيَّةٌ

مِـن عَـهـدِ خوفو لا تَرَ iiالقِنديلا

تَـجِـدُ الَّـذينَ بني المِسَلَّةَ جَدُّهُم

لا يُـحـسِـنـونَ لِإِبـرَةٍ iiتَشكيلا

وَيُـدَلَّـلـونَ إِذا أُريـدَ iiقِـيادُهُم

كَـالـبُـهمِ تَأنَسُ إِذ تَرى iiالتَدليلا

يَـتـلـو الرِجالُ عَلَيهُمُ iiشَهَواتِهِم

فَـالـنـاجِـحـونَ أَلَدُّهُم iiتَرتيلا

الـجَـهـلُ لا تَـحيا عَلَيهِ iiجَماعَةٌ

كَـيـفَ الـحَياةُ عَلى يَدَي عِزريلا

وَالـلَـهِ لَـولا أَلـسُـنٌ وَقَرائِحٌ

دارَت عَـلـى فِطَنِ الشَبابِ شَمولا

وَتَـعَـهَّـدَت مِن أَربَعينَ iiنُفوسَهُم

تَـغـزو الـقُـنوطَ وَتَغرِسُ التَأميلا

عَـرَفَـت مَواضِعَ جَدبِهِم iiفَتَتابَعَت

كَـالـعَـيـنِ فَيضاً وَالغَمامِ مَسيلا

تُـسدي الجَميلَ إِلى البِلادِ iiوَتَستَحي

مِـن أَن تُـكـافَـأَ بِالثَناءِ جَميلا

مـا كـانَ دَنـلـوبٌ وَلا iiتَعليمُهُ

عِـنـدَ الـشَـدائِـدِ يُغنِيانِ iiفَتيلا

رَبّـوا عَـلى الإِنصافِ فِتيانَ iiالحِمى

تَـجِـدوهُمُ كَهفَ الحُقوقِ iiكُهولا

فَـهـوَ الَّـذي يَـبني الطِباعَ iiقَويمَةً

وَهـوَ الَّـذي يَـبني النُفوسَ عُدولا

وَيُـقـيـمُ مَنطِقَ كُلِّ أَعوَجِ iiمَنطِقٍ

وَيُـريـهِ رَأيـاً فـي الأُمورِ iiأَصيلا

وَإِذا الـمُـعَلِّمُ لَم يَكُن عَدلاً iiمَشى

روحُ الـعَـدالَةِ في الشَبابِ iiضَئيلا

وَإِذا الـمُـعَـلِّـمُ ساءَ لَحظَ بَصيرَةٍ

جـاءَت عَـلى يَدِهِ البَصائِرُ iiحولا

وَإِذا أَتـى الإِرشادُ مِن سَبَبِ iiالهَوى

وَمِـنَ الـغُـرورِ فَـسَمِّهِ iiالتَضليلا

وَإِذا أُصـيـبَ الـقَومُ في iiأَخلاقِهِم

فَـأَقِـم عَـلَـيـهِم مَأتَماً iiوَعَويلا

إِنّـي لَأَعـذُرُكُـم وَأَحسَبُ عِبئَكُم

مِـن بَـيـنِ أَعـباءِ الرِجالِ iiثَقيلا

وَجَـدَ الـمُـساعِدَ غَيرُكُم وَحُرِمتُمُ

فـي مِـصـرَ عَونَ الأُمَّهاتِ iiجَليلا

وَإِذا الـنِـسـاءُ نَـشَـأنَ في iiأُمِّيَّةً

رَضَـعَ الـرِجـالُ جَهالَةً iiوَخُمولا

لَـيـسَ الـيَتيمُ مَنِ اِنتَهى أَبَواهُ iiمِن

هَـمِّ الـحَـيـاةِ وَخَـلَّـفاهُ ذَليلا

فَـأَصـابَ بِـالدُنيا الحَكيمَةِ iiمِنهُما

وَبِـحُـسـنِ تَـربِيَةِ الزَمانِ iiبَديلا

إِنَّ الـيَـتـيـمَ هُوَ الَّذي تَلقى iiلَهُ

أُمّـاً تَـخَـلَّـت أَو أَبـاً iiمَشغولا

مِـصـرٌ إِذا مـا راجَـعَت iiأَيّامَها

لَـم تَـلـقَ لِـلسَبتِ العَظيمِ iiمَثيلا

الـبَـرلَـمـانُ غَـداً يُمَدُّ iiرُواقُهُ

ظِـلّاً عَـلى الوادي السَعيدِ iiظَليلا

نَـرجـو إِذا الـتَعليمُ حَرَّكَ iiشَجوَهُ

أَلّا يَـكـونَ عَـلـى البِلادِ iiبَخيلا

قُـل لِـلشَبابِ اليَومَ بورِكَ iiغَرسُكُم

دَنَـتِ الـقُـطوفُ وَذُلِّلَت تَذليلا

حَـيّـوا مِـنَ الشُهَداءِ كُلَّ iiمُغَيَّبٍ

وَضَـعـوا عَـلى أَحجارِهِ iiإِكليلا

لِـيَـكونَ حَظُّ الحَيِّ مِن iiشُكرانِكُم

جَـمّـاً وَحَـظُّ الـمَيتِ مِنهُ جَزيلا

لا يَـلـمَسُ الدُستورُ فيكُم iiروحَهُ

حَـتّـى يَـرى جُـندِيَّهُ iiالمَجهولا

نـاشَـدتُـكُـم تِلكَ الدِماءَ iiزَكِيَّةً

لا تَـبـعَـثـوا لِـلبَرلَمانِ iiجَهولا

فَـلـيَـسـأَلَنَّ عَنِ الأَرائِكِ iiسائِلٌ

أَحَـمَـلنَ فَضلاً أَم حَمَلنَ iiفُضولا

إِن أَنـتَ أَطـلَـعتَ المُمَثِّلَ iiناقِصاً

لَـم تَـلـقَ عِـندَ كَمالِهِ التَمثيلا

فَـاِدعـوا لَها أَهلَ الأَمانَةِ iiوَاِجعَلوا

لِأولـى الـبَـصـائِرِ مِنهُمُ التَفضيلا

إِنَّ الـمُـقَـصِّرَ قَد يَحولُ وَلَن تَرى

لِـجَـهـالَـةِ الطَبعِ الغَبِيِّ iiمُحيلا

فَـلَـرُبَّ قَـولٍ في الرِجالِ iiسَمِعتُمُ

ثُـمَّ اِنـقَـضـى فَـكَأَنَّهُ ما iiقيلا

وَلَـكَـم نَـصَرتُم بِالكَرامَةِ iiوَالهَوى

مَـن كـانَ عِـندَكُمُ هُوَ iiالمَخذولا

كَـرَمٌ وَصَـفحٌ في الشَبابِ iiوَطالَما

كَـرُمَ الـشَـبابُ شَمائِلاً iiوَمُيولا

قـوموا اِجمَعوا شَعبَ الأُبُوَّةِ iiوَاِرفَعوا

صَـوتَ الـشَـبابِ مُحَبَّباً iiمَقبولا

مـا أَبـعَـدَ الـغـايـاتِ إِلّا iiأَنَّني

أَجِـدُ الـثَـبـاتَ لَكُم بِهِنَّ iiكَفيلا

فَـكِـلـوا إِلى اللَهِ النَجاحَ وَثابِروا

فَـالـلَـهُ خَـيـرٌ كافِلاً iiوَوَكيلا

الثلاثاء، 30 أبريل 2013

حياة احمد شوقي وثقافتة الجزء الثالث

الفصل الرابع

أولاً : الدعوة إلي العلم والمعرفة
لا تكاد تخلو قصيدة وطنية في الشوقيات من التنويه بالعلم قديما وحديثا ،
فبالعلم أشعت مصر قديما علي مختلف الأصقاع حتي لهج الناس بفضلها ، وبالعلم
اكتسح العرب قديما أعظم الحضارات ، فلما أبتلي العقل العربي بالجمود
والانحطاط وانتابه الجهل كالداء العضال فرط في مكتسباته . ولهذا اقترنت في
شعر شوقي دعوتان متلازمتان : الدعوة إلي كسب العلم ، والدعوى إلي محاربة
الجهل في شتي أشكاله .

أما الدعوة المكملة للعلم ، فهي ضرب الحصار علي الجهل أينما كان ، وإيصال
العلم إلي كل فرد ومساعدته علي متابعة تحصيله ولا غرابة فصوت المصلحين قد
جعل العلم كالماء والهواء ينبغي أن يتمتع به كل إنسان وما كان لشوقي أن
يغفل عن دور الجهل في تركيز دعائم الاستعمار وتمكين دائه في جسم الشعوب
وعقلها وروحها :
 كالجهل للشعوب مبيدا          إني نظرت إلي الشعوب فلم أجد

وإذا علمنا أن مصر وسائر البلاد العربية ارتفعت فيها أصوات حرة تدعو إلي
التعليم وتمقت الجهل ، علمنا أن هذه الأصوات لم تجعل الفتاة بمعزل عن
العلم ، واعتبرت عقل الفتاة إذا تعلم سرب المعرفة إلي الناشئة وبث فيهم
روح الوطنية ، ومن هذه الأصوات صوت قاسم أمين في مصر والطاهر الحداد في
الجزائر ، وكان شوقي مساندا لقاسم أمين في دعوته إلي تعليم الفتاة وقد أكد
قناعته بما رآه من آيات المعرفة عند المرأة في الحضارة العربية الإسلامية
، فدعا إلي استعادة تلك الأمجاد ، وغلي صقل عقول الفتيات :

وحضارة الإسلام تنط           ق عن مكان المسلمات
بغداد دار العالمات  ومنزل المتأدبات  
 أم الجواري النابغات      ودمشق تحت أمية

وكما أدرك شوقي قيمة المتعلم أدرك أيضا قيمة المعلم الذي ينقل العلم جيلا
بعد جيل ، ويفتح أكمام العقول ، وينير السبيل بمصباح العلم ، فخص في فضل
المعلم قصيدا مطولا نوه فيه بفضائله ، وعد منزلته تضاهي الرسل والأنبياء
فحمله عبء هذه الأمانة وحمل الناس واجب تبجيله :
 كاد المعلم أن يكون رسولا      قم للمعلم وفيه التبجيلا
أعلمت أشرف أو أحل من الذي  يبني وينشئ أنفسا وعقولا ؟

تلك هي في نظرنا أهم المعاني الوطنية في شعر شوقي فخر بمصر حضارتها
وأمجدها ، وولاء لها وتفان في حبها ومناضلة الاحتلال من أجلها وإشادة
بجهاد زعمائها وأبطالها ودعوة حارة إلي وحدة أبنائها ومنافحة صادقة عن
معتقداتها ودفاع مستميت عن دساتيرها وأسباب مناعتها وغيره شديدة علي
الإسلام وحياضه والأمة العربية وأرضها وكيانها سبيل كل ذلك علم ينير
العقول ويبصر القلوب فتقوي الأمة وتسترد مجدها وسناءها .

ثانياً : الخصائص الفنية في وطنيات شوقي


تعرضنا سابقاً إلي معاني الوطنية في شعر أحمد شوقي وهي معاني حضارية
وثقافية وسياسية وأخلاقية – اقتضت خصائص فنية وأساليب شعرية تهبها تألقاً
وجمالاً وقوة في التأثير ووجاهة في الإقناع .

ثالثاً : بناء القصيدة

جاءت أغلب قصائد شوقي الوطنية ذات بناء كلاسيكي يذكرك بالقصيدة الجاهلية
مستجيبة تقريباً لعمود الشعر الذي نبه إليه قدامه بن جعفر رغم حداثة
الموضوع الذي ينظم فيه . فأنت مازلت تجد الوقفة الطللية ومازلت تجد الحديث
عن الرحلة والراحلة باللغة القديمة التي تذكرك بالصحراء والفيافي والنياق
والخيول ، ومازلت تجد بث لواعج الشوق والمحبة إلي الأحبة والخلان ، غير أن
الممدوح لم يعد هو ذاك الذي عرف قديماً وإنما هو الوطن مصر والشعب الذي
عاش بين أحضانه . يقول :
 نشجي لواديك أم نأسي لوادينا        يا نائح الطلح أشباه عوادينا
ماذا تقص علينا غير أن يدا  قصت جناحك جالت في حواشينا   
 أخا الغريب : وظلا غير نادينا        رما بنا البين أيكا غير سامرنا
 من الجناحين عي لا يلبنيا             وإذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدع
 تجيش بالدمع والإجلال يثنينا         رسم وقفنا علي رسم الوفاء له

هذا مطلع من قصيدة عارض بها شوقي ابن زيدون استهلها بالوقوف علي الأطلال
علي طريقة الشاعر الجاهلي وأن من يقرن نونية ابن زيدون :
 وناب عن طيب لقيانا تجافينا          أضحي التنائي بديلاً من تدانينا
إلي نونية شوقي يستطيع أن يلاحظ أن نونية ابن زيدون كلها لوعة وحرقة وشكوي
من البين والأعداء والزمن وأنها مشحونة بعتاب حبيبته ولادة في تضاعيف كل
ذلك وأثنائه ، أما شوقي فاستهل قصيدته بمناجاة طائر حزين يرسل شجوه بوادي
الطلح في ضاحية أشبيلية وكأنه يعبر عن حزنه ولوعته لفراق وطنه ، فقد وقف
علي الرسوم الدارسة ولكنها ليست أثار مقام الحبيبة وإنما هي رسوم الحضارة
العربية الإسلامية تذكره ببلده وبملاعبه وهو حين يخاطب البرق لا يحمل تحية
إلي الحبيبة كابن زيدون في قوله :
يا سارق البرق غاد القصر واسق به من كان صرف الهوي والود يسقينا     
وإنما ليستهديه تحية إلي منازله بالنيل وتحسس رائحة وطنه .

هذا هو البناء الذي يسم أشعار شوقي الوطنية من الاستهلال إلي جوهر القصيدة
أما خواتم القصائد فعادة ما تكون حكمة تختزل القيم الوطنية التي تناولها
علي نحو ما سنبنيه لك في الفصل الخاص بالحكمة عند شوقي .

الفصل الخامس

الصورة الشعرية

أفاض النقاد قديماً وحديثاً في تعريف الصورة الشعرية ، وقد رأينا أن
نوجزها علي هذا النحو : الصورة الشعرية هي لغة الحواس والشعور ، ووسيلة من
الوسائل التي تصوغ الفكرة المجردة في شكل محسوس .

وقد تواترت في شعر كل من أحمد شوقي و أبي القاسم الشابي التشبيهات والاستعارات ، فأدت معاني الوطنية في أجمل إخراج وأجل صورة .

أ – الصورة الشعرية القائمة علي التشبيه

التشبيه عملية تتمثل في وضع دالين متميزين يقابلهما مدلولان يظهران
تماثلاً بينهما مع إيراد لفظة دالة علي تشابه الحقيقتين المذكورتين ، إنه
صورة تقوم علي تمثيل شئ محسوس أو مجرد بشئ أخر حسي أو مجرد لأشتراكهما في
صفة واحدة أو أكثر ، حسية أو مجردة ، الغاية منها تقريب المعني من الأذان
أو إخراجه من حال الغموض إلي حال الوضوح لغاية إمتاع النفس أو إقناع العقل
بواسطة التحسين والتقبيح . وقد ذكر ابن رشيق في باب التشبيه قوله :
التشبيه الحسن هو الذي يخرج الأغمض إلي الأوضح .

وقد اعتمد أحمد شوقي في وطنياته التشبيه لعدة أغراض من أهمها تأكيد حبه
لوطنه والإقناع بهذا الحب ليغري به غيره ويحفزه عليه ، ولذلك تراه يشبه
الوطن بالأمل وعهد الشبيبة تارة ويشبه بالعقيدة الدينية تارة أخري
وبالكعبة المشرفة تارة ثالثة وبالجنة طوراً رابعاً وبالثمار الذكية طوراً
خامساً ، يقول في قصيدته بعد عودته من منفاه :
 كأن قد لقيت بك الشبابا         ويا وطني لقيتك بعد يأس
 عليه أقابل الحتم المجابا         ولو أني دعيت لكنت ديني
 إذا فهت الشهادة والمتابا         أدير إليك قبل البيت وجهي
لقد جاء طرفا المعادلة في هذا التشبيه شبه ماديين ، ( لقاء الوطن / لقاء
الشباب ) إلا أن طبيعة المشبه به وما تنطوي عليه من رقة وشفافية وغناء قد
سمت به عن التقرير والتعادل ، فالشباب أمل وطموح وفتوة وتخط للصعاب توسل
به الشاعر لتقريب ما انفرد به واختص به وحده من عشق الوطن وفرحة بالعودة .
غير أن الشاعر بعد تشبيهه فرحة العودة إلي الوطن بفرحة الشيخ برجعة الشباب
إليه ، بلغت به غلواؤه إلي مجاوزة التوقير الديني فوحد بين العقيدة والوطن
إذ جعل من مصر ديناً يلقي عليه ربه في اليوم الأخر لو أنه قضي نحبه وهو في
المنفي .

ب – الصورة الشعرية القائمة علي الاستعارة

تعد الاستعارة ركناً رئيسياً في تكوين الشعر وخلق الصور ، وهي عند بعضهم
الأصل في تطور اللغة لأنها هي الأساس في استخدام الكلمات استخداماً جديداً
. فالإنسان عامة والشعر خاصة يضطر للتعبير عن حاجته أو رؤيته الجمالية إلي
استخدام نفس الكلمات في سياقات جديدة علي سبيل الاستعارة فيصوغ الواقع
صوغاً جديداً .

وقد قال ابن رشيق في العمدة عن " الاستعارة " الاستعارة أفضل المجاز وليس
في حلي الشعر أعجب منها ، وهي من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها ونزلت
موضعها .

وقد أورد ابن رشيق قول القاضي الجرجاني في تعريف الاستعارة : الاستعارة ما
اكتفي فيها بالاسم المستعار عن الأصلي ، ونقلت العبارة فجعلت في مكان
غيرها ، وملاكها بقرب التشبيه ، ومناسبة المستعار للمستعار له ، وامتزج
اللفظ بالمعني حتي لا يوجد بينهما منافرة ، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن
الأخر .

وقال الرماني : الاستعارة ، استعمال العبارة علي غير ما وضعت له في أصل اللغة .

ونجد نحن في أشعار شوقي الوطنية ألواناً من الاستعارة تخيرنا منها ما يلي:
يقول شوقي من قصيدة ألقاها 1897 .
 أنها تصغي بلا أذن          دار من أحببت أيتها
 طالب اللذات ليس يني       وفؤادي لا رشاد له
 وهو خفاق علي الوهن       أو هنته الحادثات هوي
 هيكل يهفو علي وثن          كل ركن كل زاوية
           خلع الأسرار كاهنه وبغير الحسن لم يدن
تشكل هذه الأبيات استعارة كبيرة حل فيها شوقي الوطن محل الحبيبة ، وصاغها
وفق مثال سابق في الشعر العربي تمتزج فيه ذكري الديار بذكري العهود امتزاج
الروح بالبدن . وآلف بين المعني الغزلي ومعجمه ومعني الوطن : ( من أحببت ،
فؤادي فاقد الرشد ، طالب اللذات ، واهن من المصائب والهوي ، خفاق أبداً
رغم وهنه ) .

ثم ما هي الشاعر بين صورة المعبود وصورة الوطن منتقلاً إلي معجم جديد
تتعانق فيه المعاني ( الهيكل – الوثن – الأسرار – الكاهن ) . أنها تراتيب
ناسك في معبد محبوبة مقدسة هي " مصر " هي رمز المحبة والحسن والحياة ،
تتناغم في وصفها المعاني الغزلية بالمعاني الدينية لتؤدي المعني الوطني ،
هي إذاً أقانيم ثلاثة تتداخل الحب والجمال والألوهية .

إن الاستعارة التي ابتدعها شوقي بهذا التمازج واسع الأطراف ما يلبث أن
يكشف عنها في أخر بيت في القصيدة إذ ينزع الإنسانية بكل أبعادها عمن لا
وطن له .
 ليس إنساناً بلا وطن         إن إنساناً تقابله
وما تلبث الملاعبة اللفظية أن تنجلي عن المعني الوطني إذ يصبح الوطن هو
القطب الذي يجتذب كل المعاني وتدور حوله كل الأحاسيس الإنسانية .

ج – الصورة النغمية أو الرصانة الشعرية

الشاعر الوطني في عرف بعض الأدباء هو الأديب الذي يكون ثائر النفس جياش
الفؤاد ، قادراً بما يملكه من فصاحة وقوة بيان علي صب ثورة نفسه في قلوب
أبناء أمته فيثيرهم ويثير أحلامهم ويجيش هممهم ويوقظ نائم أحقادهم ، وهو
الذي يرفع لهم مثل الحياة الحرة الشريفة العزيزة ويهزهم هزاً إلي صراع
عدوهم وإن اشتد بطشه وجبروته ويحبب إليهم احتمال الأذى ولقاء الردي
ويحملهم علي الجود بالنفس والمال والولد ونعيم الحياة وراحة الحياة الدنيا
.

فالشاعر بهذا المعني يعد لسان الأمة الصادق والمترجم عن شعورها والحافز
لهمتها والمستل لعوامل اليأس والاستكانة في نفوس أبنائها والمفاخر بأثارها
والمنافح عن أمجادها .

وليكون الشاعر هذا اللسان المعبر عن آمال الشعب وآلامه لا بد له من الاختلاط به والاندماج فيه ومشاركته عواطفه وميوله .

وبهذا يفهم الشعر الوطني علي أنه وسيلة قبل أن يكون غاية وأداة قبل أن
يكون فناً يطلب لذاته ، ومن ثم وجب أن يتوخي له الشاعر أساليب مخصوصة
تلائم الأحداث والأوضاع ووجب أن ينتقي له اللفظ القوي الجذاب والصورة
الموثقة المؤثرة وأن يجتنب فيه الإغراب والتعمية والإلغاز لكي تقع أفهام
السامعين علي معانيه في سهولة ويسر ، كما يجب أن يتخير له من الأوزان
والصيغ ذات التوقيع النغمي الهزاز الذي يسهم في إلهاب المشاعر وإثارة
الحمية .

وإذا صحت هذه المقدمات تجد شوقي استجاب لها حيناً وجانبها أحياناً . فأنت
تقرأ شعره الوطني لا تري فيه خطيباً مفوهاً أو سياسياً مجلجلاً محرضاً
وإنما تستخلص من تضاعيفه ذلك الرجل الهادي الطبع الوديع النفس الذي عاش في
جو من التأملات وذكريات الماضي البعيد المليء بتاريخه وديانته وأحداثه
وعبره ، وتلمس من خلال كل ذلك ملامح المعلم الناقد الذي يصوغ ما حصله من
علم حكماً ونصائح وتوجيهات يزجيها إلي الناس لكي يعملوا بها حياتهم أو
يستنيروا بها فيما يختارون ويذهبون إليه ، لذلك طغي الإخبار علي شعره
والتسجيلية الحرفية للوقائع والأحداث يوثقها ثم يبلغها للسامعين بلغة فيها
كثير من مشاعر العطف والتأثر ولكن فيها نصيب وافر من العقل والحكمة .
ويقول :
 وحبك في صميم القلب نام        أحبك مصر من أعماق قلبي
 إذا ظهر الكرام علي اللئام        سيجمعني بك التاريخ يوماً
          لأجلك رحت بالدنيا شقيا  أصد الوجه والدنيا أمامي
          وهيتك غير هياب يراعا  أشد علي العدو من الحسام
فأنت في هذه الأبيات لا تلمس تلك اللهجة المثيرة المنتظرة من قصيدة وطنية
ولا تقف علي لغة متوترة أو مستفزة ترج وتجرف لكان صاحبها يريد إخضاعها
لسلطان العقل والفن معاً .

ولا تظهر هذه العاطفة الهادئة الرصينة في ما نظم شوقي عن الوطن وعلاقته
الخاصة به وإنما تتبدي لنا أيضاً في ما قاله في كبار الحوادث وجليل
الوقائق مثل كبار الحوادث في وادي النيل " أو نكبة دمشق " حيث يقول :
لحاها الله أنباء توالت  علي سمع الولي بما يشق 
           تكاد لوعة الأحداث فيها تخال من الخرافة وهي صدق
           وقيل معالم التاريخ دكت  وقيل أصابها تلف وحرق
 ومرضعة الأبوة لا تعق       ألست دمشق للإسلام ظئراً
         وللأوطان في دم كل حر  يد سلفت ودين مستحق
         وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
تقرأ هذه الأبيات فتجد الشاعر يعرض لك الواقعة بأسلوب إخباري عرضاً هادئاً
غير مشبوب ويفحصها فحصاً عاقلاً لكنه لا يخلو من مشاعر الحزن ولا يعدم
قولاً حكيماً أيضاً ، جاء هكذا كله في لغة مباشرة لا غموض فيها ولا التواء
وحتى إن بدت بعض العبارات قليلة الخصب الذهني والعمق العقلي مثل قوله :
          وقيل معالم التاريخ دكت  وقيل أصابها تلف وحرق
فإن المهم لدي الشاعر أن يكون شعره سهل المأخذ قريب الغور .

إلا إن حديثنا عن رصانة شوقي الشعرية وميله إلي النقل الهادئ للأحداث
والنقد الرزين للمستعمر وأذياله والنصح الرشيد لأبناء الوطن بلغة شعرية
طغي عليها الإبلاغ فإنه لا يعدم شعراً حماسياً جاء في أساليب إنشائية نمت
عن ثورة في النفس أو غضب يمور به صدره فجاءت صوره البيانية جلية ناصعة
وافرة الخصب والرواء .

 الخاتــــــمة

الحمد لله الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم . وأصلي وأسلم علي الحبيب المعلم
وبعــــــــــد :

اللغة الشعرية :

كان شوقي يعني أشد العناية بتوفير عناصر الجمال اللفظي لشعره ، ولعل
احتفاله بالمعني كان لا يضاهي احتفاله باللفظ فالصنعة والديباجة ونسيج
الكلام أمور مقدمة في قول الشعر لديه وقد يكون في أقصي ضميره يؤثر البيت
الجيد اللفظ علي البيت الجيد المعني من شعر الشعراء القدامى الذين كان
شديد الإعجاب بهم والتأثر بفرائضهم . لذلك نجد لغة الشعر لغة البيان الأول
متانة وحسن سبك وجودة صياغته ، ومما لا شك فيه أن شوقي كان يتخير لفظه من
المنتج اللغوي القديم في عهوده المشرقة ويعمد إلي إعادة حياكته بمواضيع
جديدة وخاصة منها الموضوع الوطني .

غير أن العودة إلي القديم واتخاذه أداة إنشاد وإبلاغ في مواضيع حديثه أحدث
نوعا من الارتباك في اللغة الشعرية لدي أحمد شوقي لذلك تري القصيدة
الواحدة وقد عجت بلغة الصحاري والخيل والسيوف والرماح والأبقار الوحشية
والغزلان وإلي جانبها لغة السياسة الجديدة من دستور وبرلمان وشعب واستقلال
ووطن ومهرجان ومؤتمر وحزب ومستعمر وغيرها .

يقول مستعملاً لغة قديمة :

 ل العسجدية ينثنين            الخيل حولك في الجلا
وعلي نجادك هالتا           ن من القنا والدارعين

لمتابعه الجزء الاول

لمتابعه الجزء الثاني

حياة احمد شوقي وثقافته الجزء الثاني

 الباب الثالث


الفصل الأول :
أولاً : نقد الإنكليز والمتواطئين معهم
ثانياً : الوفاء لتراث مصر
ثالثاً : تاريخ مصر

الفصل الثاني :
أولاً : الولاء للإسلام
ثانياً : حب الوطن
ثالثاً : استنهاض الهمم

الفصل الثالث :
أولاً : الإيمان بالشعب وبالمؤسسات والدستور
ثانياً : التسامح الديني
ثالثاً : التنويه بالثورة العربية


الفصل الرابع :
أولاً : الدعوة إلي العلم والمعرفة
ثانياً : من الخصائص الفنية في وطنيات شوقي
ثالثاً : بناء القصيدة

الفصل الخامس :
أ - الصورة الشعرية القائمة علي التشبيه
ب- الصورة الشعرية القائمة علي الاستعارة
جـ - الصورة النغمية أو الرصانة الشعرية

الفصل الأول

أولاً : نقد الإنكليز والمتواطئين معهم


إن الحوادث التي كانت تجد في مصر هي التي تذكي في نفس شوقي لهيب وطنيته ،
ومن الحوادث العظيمة نقل الطاغية كرومر من مصر بعد أن جثم علي صدرها أربعا
وعشرين سنه يعسف بالناس ويقتلهم وينهب خيرات البلاد ، وينصب من يشاء ويعزل
من يشاء .

وقد خطب كرومر يوم رحيله عن مصر في حفل توديع أقيم له سنة 1907 فندد
بإسماعيل وعصره وذم المصريين وشتمهم لأنهم في نظره لم يقدروا منن الاحتلال
الإنكليزي ولم يعترفوا بجميله عليهم .

ومما ورد في خطبة اللورد كرومر وكان قادحا لسخط شوقي قوله : " أننا في ربع
قرن قد أدينا عملا طيبا علي ما فيه من القصور ... ولا يمكن أن أصدق أنه
يمكن للمصريين أن يتنكروا للتمدن الغربي الذي جلبته لهم إنكلترا في خلال
الخمسة والعشرين عاما ، ذلك التمدن الذي نشلهم من وهدة اليأس بعدما هرموا
فيها . وهب أبناء الجيل الحاضر لا يعترفون بهذه الحقيقة فإني لا أزال آمل
أن يعترف بها أبناؤهم ، إذ المعتاد أن يكون أولاد العميان مبصرين ... إن
الاحتلال البريطاني سيدوم ويبقي ... ولا يكن عند أحد ريب في هذه الحقيقة
الثابتة " .

وقد تجلي غضب شوقي في قصيدة مطوله عبر فيها عن غضبه وغضب الناس تجاه وقاحة
المستعمر وتحديه لحقوق الشعب ، وجعل أي احتلال هو مرض عضال لابد للشعوب أن
تبدأ منه يوماً :

 أم أنت فرعون يسوس النيل         أيامكم أم عهد إسماعيلا
 لا سائلاً أبداً ولا مسؤولا            أم حاكم في أرض مصر بأمره
 وكأنك الداء العياء رحيلا            لما رحلت عن البلاد تشهدت
 أدب لعمرك لا يصيب مثيلا         أوسعتنا يوم الوداع إهانة
 كنا نظن عهودها الإنجيلا           اليوم أخلفت الوعود حكومة

وكما نقد شوقي كرومر باعتباره ممثلا للاحتلال البريطاني وشنع بأعماله ،
نقد كذلك سلوك المصريين المتواطئين مع الاحتلال السائرين علي نهجه ،
المتشبهين بأذياله ، ومن هؤلاء نذكر رئيس الوزارة " رياض باشا " الذي طالب
الخديوي عباس أن يعتذر إلي الإنكليز لأنه نقد أحد قاداتهم ، ولما أبي
الملك أن يعتذر تقدم رياض رئيس الوزارة المصرية من كرومر وبرأ نفسه من
صنيع الملك وراح يلح في الأعذار وألقي خطاباً مجد فيه الإنكليز ونقد
عباساً ودولته . ومما ورد علي لسان رياض باشا في هذه الخطبة قوله منوهاً
بمزايا الاحتلال : " فهذه اليد الفعالة قد شملتنا ، وهي التي كانت لنا
معوانا ، بل متمماً ومكملاً لهذا المشروع ، فحق علينا أن نعرف هذه المبرة
، ونقدم لجنابة ( كرومر) واجب الشكر ، ونثني عليه أطيب الثناء ، ونرجو ،
ألا يترك هذا المولود في المهد صبيا ، بل يراعيه بعين عنايته ويواسيه
ويواليه إلي أن يتربي ويبلغ أشده ، ويصير رجلاً قوياً يقوم بأود نفسه .

ولئن استنكر الحاضرون هذا التملق الفاضح فإن شوقي خرج من مجرد الاستنكار
إلي التنديد بقصيدة رد فيها علي هذه الخطبة ، والممالاة لمن قهروا مصر
والمصريين :
 وهم غمروك بالنعم الجسام        غمرت القوم إطراء وحمدا
 فكيف اليوم أصبح في الرغام      رأوا بالأمس أنفك في الثرايا
 أضيف إلي مصائبنا العظام       خطبت فكنت خطباً لا خطيباً
 وجرحك منه لو أحسست دام      لهجت بالاحتلال وما أتاه
 وما أغناك عن هذا الترامي       وما أغناه عما قال فيه
 وذا ثمن الولاء والاحترام        أجبت البلاد طويل دهر

ثانيا : الوفاء لتراث مصر
تغني شوقي بتراث مصر العظيم في غرر من قصائده المطولة ، وتجلي اعتزازه
بهذا التراث المتنوع صريحا أراد أن ينقله غلي جيل الشباب حتي يبعثوه حيا
ما جدا من جديد .

ثالثاً : تاريخ مصر
لقد دون شوقي تاريخ مصر في قصائد مطوله مثل " انها النيل " و " وداع
اللورد كرومر " وخاصة في " كبار الحوادث في وادي النيل " التي قدمها
للمؤتمر الدولي المنعقد في جنيف في سبتمبر 1894 بصفته مندوبا للحكومة
المصرية ، وهي تدل دلاله واضحة علي ما يكنه الشاعر لوطنه من ألوان الوفاء
والولاء من جهة وعلي ثراء ثقافته وقدرته علي تجاوز المادة التاريخية إلي
ما وراءها كي يستنهض الأمة ضد من يحتل أرضها ويشكك في قيمة تراثها ويزرع
بذرة الإحباط في نفوس أبنائها ، كان لابد أن يصدح الشاعر بعظمة مصر ويذكر
بمآثرها وعلمائها وعظمائها وإشعاعها الحضاري علي أصقاع العالم يقول طالع
هذه القصيدة :
همت الفلك واحتواها الماء وحداها بمن تقل الرجاء
في هذه القصيدة المطولة التي قارب عدد أبياتها الثلاثمائة يذكر الشاعر
بتاريخ مصر عندما كانت تسيطر علي البحار وتملك الرقاب ويشيد بإنجازات
الفراعنة وخاصة منها الأهرامات ويصور عصرهم تصويرا مبدعا ، ويعدد مآثرهم
لا تعداد المؤرخ الموضوعي المحايد وإنما تعداد المؤرخ الذي ينفعل مع
التاريخ حتي يصرخ متحمساً معتزاً :
 وعلونا فلم يجزنا علاء    وبنينا فلم نخل لبان
 والبرايا بأسرهم أسراء    وملكنا فالمالكون عبيد
ويتعرض الشاعر إلي أعلام العصور المختلفة فيبرز عظمة رمسيس وهيبته وقوة
سلطانه ومحبة الناس له وحنكته السياسية وحسن تدبيره الدولة وعدم اغتراره
بالدساسين والسفهاء وهو بكل هذه الخصال يفوق علي جميع الملوك علي مر
الأزمان وحتى العصر الحديث ، فهو المثال الذي يصلح أن يكون قدوة لغيره
وعلي هدي خطاه ينبغي أن يسير كل ملك يروم بسط سلطانه والاحتفاظ بعرشه

الفصل الثاني


الولاء للإسلام
حب الوطن ، استنهاض الهمم

أولاً : الولاء للإسلام :

تنطلق الشوقيات باعتزاز شوقي بالدين الإسلامي ، واعتباره درعا يقي
المصريين من طعنات الاحتلال . وقد خص لتعاليم الإسلام أكثر من قصيدة " نهج
البردة " ، وفيها إكبار للرسول لأنه حمل أعظم الرسالات ودعا إلي مبادئ
سامية فصلها شوقي تفصيلا في مطولته ، ورأي في الرسول قدوة يقتدي به
المسلمون ليخرجوا من جهلهم وهزائمهم ، ورأي في مبادئ العدل التي دعا إليها
والعلم الذي أقره ينابيع الحضارة الحق :

 كم شيد المصلحون العاملون بها  في الشرق والغرب ملكا باذخ العظم
للعلم والعدل والتمدين ما عزموا  من الأمور وما شدوا من الحزم
 وأنهلوا الناس من سلسالها الشبم        سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم
ومن المبادئ الإسلامية التي أشاد بها شوقي المساواة بين الفقراء والأغنياء
واعتبار التقوى فوق الجاه والمال ، يقول مخاطبا الرسول :

فرسمت بعدك للعباد حكومة  لا سوقه فيها ولا أمراء
 فالكل في حق الحياة سواء                  أنصفت أهل الفقر من أهل الغني
 ما اختار غلا دينك الفقراء                 فلو أن إنسانا تخير ملة

ثانياً : حب الوطن

كان حب الوطن متغلغلاً في نفس شوقي ، فلما نفي عن مصر وأحس الاغتراب توهجت
وطنيته وأحس حنينا جارفا غلي مصر دل علي ما بداخله من كرم الطينة والوفاء
للأهل والديار ، وقد قال أحد الحكماء قديما : " حنين الرجل إلي وطنه من
علامات الرشد " .
وقد نظم شوقي قصائد عدة في الحنين إلي الوطن لعل أظهرها تلك التي مطلعها :
 اذكرا لي الصبا وأيام أنسي          اختلاف الليل والنهار ينسي
 نازعتني إليه في الخلد نفسي         وطني لو شغلت بالخلد عنه
 شخصه ساعة ، ولم يخل حسي     شهد الله لم يغب عن جفوني

وقد نظم شوقي قصيدة مطولة عارض بها قصيدة ابن زيدون الأندلسي والتي مطلعها :
 وناب عن طيب لقيانا تجافينا         أضحي التناهي بديلاً من تدانينا

أما مطلع قصيدة شوقي :

 نشجي لواديك أم نأسي لوادينا        يا نائح الطلح أشباه عوادينا

وفيها غني شوقي غناء حزين ، وحن حنيناً إلي مصر رقيقاً وتمني جرعة من
النيل تروي عطشه وتبل حرقته ورأي في ابن زيدون غربة وحرماناً تلتقي وحرقته
:
 عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينا         يا ساكني مصر أنا لا نزال علي
 شيئاً نبل به أحشاء صادينا          هلا بعثتم لنا من ماء نهركم
 ما أبعد النيل عن أمانينا               كل المناهل بعد النيل آسنة

فكيف كانت عودة شوقي إلي مصر ؟

في سنة 1919 وفي قصر السلطان حسين كامل بمصر وكان قد جمع أصدقاءه وخاصته
في ليلة من ليالي الأنس ، إذ التمس منه الشاعر المصري وصديق شوقي ،
إسماعيل صبري أن يسمح للشاعر الغريب بالعودة إلي الوطن فتزدان به مصر
ويفخر به المصريون فاستجاب السلطان لطلب إسماعيل صبري وأذن لشوقي بالعودة
إلي مصر ، فاستعدت جماهير من الطلبة ومن عموم الناس لاقتباله ، ولما
اقتربت السفينة من الميناء طفرت الدموع من عينه وهتف قائلاً :
يا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا
 علي         ولو أني دعيت لكنت ديني ه أقابل الحتم المجابا
 إذا فهت الشهادة والمتابا        أدير إليك قبل البيت وجهي

وقد أتاح النفي لشوقي أن يراجع حياته وبعض مواقفه التي جانب فيها الصواب
وحاد عن مطامح الوطن كالمواقف الجادة التي وقفها من أحمد عرابي ، وصار
شوقي يؤمن بالشعب بطلاً أوحد في التاريخ ويهجن من سلطة الأفراد .

ثالثا : استنهاض الهمم

أدرك شوقي بعد عودته من منفاه ، أن الشباب الذي حمله علي الأعناق أكراما ،
إنما هو القوة الضاربة في مصر وهو القادر علي تبديل حال بحال ، وإليه توكل
الثورات التي تعصف بالحكام والطغاة فكان يتوجه إلي الشباب ينفخ فيهم لهيب
الثورة ويحثهم علي مواصلة المقاومة التي بدأها أحرار مصر :
 ملبي حين يرفع مستحبابا         شباب النيل إن لكم لصوتا
فهزوا " العرش " بالدعوات " حتي يخفف عن كنانته المصابا   
ولم يكن نداء شوقي للشباب إلا دعوة لتبديل نظام بنظام وعرش بعرش بسواعد عهد فيها التضحية من أجل " الحرية الحمراء " .

وقد يتجاوز شوقي خطابه لشباب مصر ليشمل كل الشباب المتفجر حيويته ، فيصوغ
له المثل المنشود حكما تتجاوز الزمان والمكان وترسم الغد المضئ بالجهد
والجهاد :

 ولكن تؤخذ الدنيا غلابا        وما نيل المطالب بالتمني
 إذا الإقدام كان لهم ركابا      وما استعصي علي قوم منال
وإذا كان الشباب عماد الثورة " يهز العرش " فلا بد من عدة يعدها لهذا الأمر الجلل ، وهذه العدة هي العلم والمعرفة .

وقد ألح شوقي أيما إلحاح علي العلم واكتسابه والتفاني في تحصيله ، فهو عدة
الشباب ليسترجع ماضيه التليد ، وليبني مستقبله المشرق وليقاوم الاحتلال في
حاضره المقيت :
 واطلبوا الحكمة عند الحكماء         فخذوا العلم علي أعلامه
واقرؤوا تاريخكم واحتفظوا خلقت نصرتها للضعفاء
 هي ضاقت فاطلبوه في السماء       واطلبوا المجد علي الأرض فإن
بمثل هذه الأبيات الخطابية توجه شوقي يحفز الهمم وينير البصائر خاصة وقد
شهد عن كثب آثار العلم في المدينة الأوربية ، وأدرك البون البائن بين
الحضارتين وعلم أن تفريط العرب في علومهم زمن الانحطاط إنما هو السبب
المباشر في الاستعمار بشتي أشكاله .

الفصل الثالث

أولاً : الإيمان بالشعب وبالمؤسسات والدستور

إن السنوات التي قضاها شوقي بعيدا عن الوطن منفيا في أسبانيا ثم ذلك
اللقاء الجماهيري الضخم الذي قابله به المصريون واعتبروه بطلا قائدا من
منفاه قد غير أرستقراطية شوقي وقربه أكثر من شواغل الشعب وهمومه ، وخفف من
حدة تبعية للخديوي وللوظيفة وأعطي شعره مجري جديدا ومبادئ كان غافلا عنها
عندما هزت ثورة 1919 أركان مصر وهو غائب عنها .

وقد كشفت له الثورة عظمة الشعب وقدرته علي إخضاع أعتي القوي الاستعمارية ،
كما كشفت له تضحية الأفراد والجماعات بالمال والنفس والأبناء في سبيل
الاستقلال وعزة مصر ، وتصدر الشعب في ديوان شوقي محل القصر ، وهتف قائلا :

       زمان الفرد يا فرعون ولي ودالت دولة المتجبرينا
 علي حكم الرعية نازلينا        وأصبحت الرعاة بكل أرض

وقد تجسدت تضحيات الشعب المصري في المطالبة بالدستور الذي " يلجم الحكومة
بلجام من حديد " علي حد تعبير الزعيم مصطفي كامل ، وقد وضع هذا الدستور
سنة 1924 ولكن الملك فؤاد سعي إلي إبطال العمل به لأنه اعتبره استنقاصا
لسلطة الملك وتقليلا من شأنه في أعين الجماهير . غير أن شوقي هزته النخوة

وهو يستمع إلي بطولات الأبطال تتلي علي مسامعه وود لو كان رآها عن كثب حتي
تفجر فيه شاعريته . وفي هذا الصدد قال :

 لنظمت للأجيال ما لم ينظم         يوم البطولة لو شهدت ناره
لو لا عوادي النفي أو عقباته والنفي حال من عذاب جهنم  
          لجمعت ألوان الحوادث صورة مثلت فيها صورة المستسلم

فما كان شوقي إلا أن يحث الناس علي التمسك بهذا المكسب لأنه وجه من وجوه سلطة الشعب .
يقول شوقي :

 تبيتوا علي يأس ولا تتضجروا        ويا طالبي الدستور لا تسكتوا ولا
اعدوا له صدر المكان فإنني  أراه علي أبوابكم يتخطر   

ولما أفتتح أول برلمان مصري في 15 مارس سنة 1924 م قال شوقي قصيدة أشاد
فيها بالحكم النيابي وعده مظهراً للحرية والسيادة وثمرة لنضال الشعب
وامتداداً للحكم الشوري الذي نص عليه الإسلام ، ومما يقول في هذه القصيدة :

 ظلاً علي الوادي السعيد ظلالا      البرلمان غداً يمد رواقه
 دنت القطوف وذللت تذليلا          قل للشباب اليوم بورك غرسكم
 وضعوا علي أحجاره إكليلا         حيوا من الشباب كل مغيب
 جماً وحظ الميت منه جزيلا         ليكون حظ الحي من شكرانكم
 حتي يري جنديه المجهولا           لا يلمس الدستور فيكم روحه

وتيقن شوقي أن هذه المكاسب مهددة وأن العقول التي آمنت بسلطة الفرد أو
سلطة الاستعمار لابد أن تهدمها بمعاولها الرجعية ، فحث علي صيانة هذه
المكاسب بفضل العلم والمعرفة واليقظة الدائمة ، ودعا إلي اختيار ممثلي
الشعب اختيار واعياً يدل علي ما بلغه الفرد من معرفة بحقوقه ، فاستمع إليه
يتوجه إلي الشعب المصري قائلاً :

 ت من المجلس قابا           الها الشعب لقد صر
 وكن الحر انتخابا             فكن الحر اختياراً
 ليس تألوك ارتقابا        
     إن للقوم لعيبا
 ب علي الصدق وشابا         فتخير من كل شـ

بهذه الحماسة للدستور والبرلمان ولمن دافع عنهما مثل سعد زغلول كان شعر
شوقي معبراً عن طموح الناس في الحرية والاستقلال وبناء الوطن بناء جديداً .

ثانياً : التسامح الديني

كان شوقي يأخذ نفسه بالتسامح الديني وخاصة بين المسلمين والأقباط إذ كان
يعتبر المتشيعين للإسلام والمسيحية أمة واحدة منذ عشرات القرون وأنهم
جميعا أبناء النيل ومن طينه ومائه .

وكثيرا ما نبه شوقي المسلمين والمسيحيين علي حد سواء إلي أن المصريين
جميعا شركاء في الآلام ، أما اختلاف الدين فلا يصح أن يكون عاملا للفرقة
والانقسام فالمسلم يتجه إلي الله والقبطي يتجه إلي الله كذلك :

 فهذا تشبت بمحال           يا بني مصر لم أقل أمة القبط
 أمة وحدت علي الأجيال        إنما نحن ، مسلمين وقبطا
         سبق النيل بالأبوة فينا فهو أصل وآدم الجد تال
        مر ما مر من قرون علينا رسفا في القيود والأغلال
 في يديه ومن مشي بهلال            وإلي الله من مشي بصليب

ثالثاً : التنويه بالثورة العربية

لم تكن البلدان العربية في مطلع القرن العشرين أفضل حالا من مصر ، بل كانت
جميعا ترزح تحت الاحتلال الأوروبي يسومها ألخسف و المذلة, ويعبث بأموالها
وأرواحها, ويشككها في قدراتها على ألعلم والنمو والانبعاث . وقد نظر شوقي
إلى البلاد العربية شرقا وغربا فلم يجد إلا الخضوع إلى الهيمنة , هيمنة
الحاكم المحلي ينصبه الاستعمار ويدعمه .

وقد حزن شوقي للبلاد العربية : يجثم الإنجليز علي صدر مصر والفرنسيون علي
صدر سوريا وشمال أفريقيا والطليان علي صدر ليبيا . ومن دوافع قصائده ما
قاله في " نكبة دمشق " وقد أسي لعدوان فرنسا علي سورية وعبثها بآثارها
ومعالمها الإسلامية ، وهي التي كانت بالأمس تبش بالحرية وتنصب نفسها حامية
للحقوق الإنسانية والمبادئ السامية ، إلا أن الاستعمار وإن أخفي وحشيته
فإلي حين ثم تنفضح في ممارسته وقد ندد شوقي في هذه القصيدة بفرنسا قائلاً :

        وللمستعمرين وإن ألانوا قلوب كالحجارة ولا ترق
 وتعلم أنه نور وحق          دم الثوار تعرفه فرنسا
 وزالوا دون قومهم ليبقوا     بلاد مات فتيتها لتحيا
وحررت الشعوب علي قناها  فكيف علي قناها تسترق ؟

غير أن المدافع التي هدمت دمشق لم تكن نهاية النضال حسب شوقي ، بل هي حافز
علي مقاومة الاحتلال الفرنسي والنزوع إلي حرية ثمنها باهظ ، ولئن كان
التوجه إلي سوريا فالخطاب موجه إلي كل بلد عربي ابتلي بالاستعمار .

لمتابعه الجزء الاول

لمتابعه الجزء الثالث

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | 100 Web Hosting ta3rib : Abed